عظات
١٨‏/٤‏/٢٠١٧ زمن العنصرة | الأب بيار نجم ر.م.م

الأحد الخامس من زمن العنصرة

يهدف الإنجيليّ متّى من خلال هذا النّص الى خلق صلة بين عمل يسوع الخلاصي على الأرض وبين عمل الرّسل الّذين يكملون العمل نفسه، لا من ذاتهم، ولا على طريقتهم الخّاصة، بل باختيار من الرّب شخصيّاً وبتعليم منه.

في النّصوص التي تسبق هذا المقطع الإنجيليّ، نجد التشديد كلّه موضوعاَ على "الحصاد الكثير والفعلة القليلون"، ويأتي هذا النّص كجواب على النصوص السابقة: الرّب يدعو الفعلة ليعملوا في حقله ويجمعوا الحصاد الكثير.

متّى 10: 1-7

ودَعَا يَسُوعُ تَلامِيْذَهُ الاثْنَي عَشَر، فَأَعْطَاهُم سُلْطَانًا يَطْرُدُونَ بِهِ الأَرْوَاحَ النَّجِسَة، ويَشْفُونَ الشَّعْبَ مِنْ كُلِّ مَرَضٍ وكُلِّ عِلَّة. وهذِهِ أَسْمَاءُ الرُّسُلِ الاثْنَيْ عَشَر: أَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذي يُدْعَى بُطْرُس، وأَنْدرَاوُسُ أَخُوه، ويَعْقُوبُ بنُ زَبَدَى، ويُوحَنَّا أَخُوه، وفِيْلِبُّسُ وبَرْتُلْمَاوُس، وتُومَا ومَتَّى العَشَّار، ويَعْقُوبُ بنُ حَلْفَى وتَدَّاوُس، وسِمْعَانُ الغَيُورُ ويَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذي أَسْلَمَ يَسُوع. هؤُلاءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُم يَسُوع، وقَدْ أَوْصَاهُم قَائِلاً: "لا تَسْلُكُوا طَرِيقًا إِلى الوَثَنِيِّين، ولا تَدْخُلُوا مَدِيْنَةً لِلسَّامِرِيِّين، بَلِ اذْهَبُوا بِالـحَرِيِّ إِلى الخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيل. وفِيمَا أَنْتُم ذَاهِبُون، نَادُوا قَائِلين: لَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَات.

 

لذلك لا يمكننا أن نقرأ هذا النّص ولا أن نفهمه بمعزل عن النصّ السابق: التلاميذ الإثنا عشر هم أوّل غيث الفعلة الّذين سوف يدعوهم الرّب للعمل في حقله، هم الباكورة فقط، فحلقتهم لا تنغلق على نفسها، وهم لن يكونوا آخر المدعوّين. لقد استلم التلاميذ من الرّب الرسالة، وبدورهم سوف ينطلقون ليكملوا ما أسّسه يسوع، وباسمه يدعون عمّالاً آخرين يكملون عمل الخلاص.

شرح النّص:

يلفت نظرنا أن متى لم يعط لائحة التلاميذ الأثني عشر في بداية إنجيله كما فعل مرقس (مر 3، 13-19)، بل ترك الأسماء الى ما بعد عظة يسوع عن الحصاد وعن ضرورة الفعلة الّذين يعملون في حقل الرسالة. لقد قدّم متى الرسالة قبل أن يقدّم الرسل، أعلن الدعوة قبل أن يعلن المدعوّوين، وذلك تشديداً منه على أن الهدف الأوّل من عملنا في حقل الرسالة هو ليس شخصنا، ولا حتى دعوتنا، بل هو الحصاد، هي الكنيسة، هو خير النفوس الّذي يحتل الأهمّية الأولى ومنه تأتي أهمّية المدعوّين وهوّياتهم.

كما يلفتنا أيضاً إختلاف التسميّة في ما يختصّ بالفعلة المدعوّين: في الآية 1 يسمّيهم متّى "التلاميذ"، أمّا في الآية 2 فيدعوهم "الرسل". الآية الآولى هي المقدّمة وهي الإعلان ليس عن الهوّية فقط، بل عن هدف الدعوة كتحقيق لدعوة شعب الله القديم وللنبوءات كلّها.

ترتبط تسمية "اثني عشر" بتاريخ شعب إسرائيل، وبعدد قبائله تحديداً، وهو ما سوف يتوضّح لنا في ختام إنجيل متّى حين يقول الرّب: "الحَقَّ أَقولُ لكم: أَنتُم الَّذينَ تَبِعوني، متى جلَسَ ابنُ الإِنسانِ على عَرشِ مَجدِه عِندما يُجَدَّدُ كُلُّ شَيء، تَجلِسونَ أَنتم أَيضاً على اثنَي عَشَرَ عَرْشاً، لِتَدينوا أَسباطَ إِسرائيلَ الاثَنيْ عَشَر". فقبائل إسرائيل الإثني عشر تعني شعب الله المختار، لا من ناحية ارتباطه بالشعب الإسرائيلي وبأرض فلسطين، بل هي رمز لقبائل الأرض كلّها، وللخلاص الشامل الّذي يرغب الرّب بتحقيقه. 

ويعني هذا العدد أيضاً أن الرّب قد جاء يؤسّس العهد الجديد، لا بنقض القديم، إنّما بإعطائه معناه الحقّ، فقبائل الله لم تعدّ محدّدة بأرض أو بإثنيّة، بل صارت تقوم على الإثني عشر الّذين دعاهم لينطلقوا الى الكون بأسره ويعلنوا الخلاص. إن هدف خلق شعب الله القديم كان إعلان الخلاص للشعوب بأسرها، بقول الرّب لإبراهيم أب القبائل كلّها: "وباسمك تتبارك الشعوب كلّها"، أي أن دعوة قبائل الله الإثني عشر كانت أن تعلن للشعوب اسم الرّب، لكيما تحصل الشعوب كلّها على الخلاص. ولكن خطأ شعب الله القديم كان بالإنغلاق على ذاته، وحصر الخلاص به وحده، مما كاد يخنق دعوة الله للخلاص الشامل. واختيار الرّب للإثني عشر هنا، هو لإعادة إحياء هذه الدعوة الأصليّة، وللإعلان مجدّداً أن رغبة الله تكتمل بخلاص الشعوب بأسرها، خلاص لا يعطيه الرّب إلاّ بمشاركة مختاريه به، وبتعبهم لنشره، لأّن البشريّة هي عائلة، وكلّ مؤمن هو مسؤول عن إعلان كلمة الله وعن إيصال الخلاص الى إخوته في العالم.

أما الإنتقال من عبارة "التلاميذ الإثني عشر" الى عبارة "الرسل" في الآية التاليّة، فتهدف الى إعلان أن دعوة الرّب الى الرسل، كما دعوة الله الى قبائل إسرائيل في العهد القديم، لم تكن دعوة مقفلة على ذاتها، حكراً على أقليّة معيّنة أو على نخبة، بل هي دعوة أقليّة للإنطلاق الى الكون أجمع، للإعلان للكون كلّه إرادة الرّب الخلاصيّة. 

التناغم بين "التلاميذ الإثنيّ عشر" و"الرسل" هو أيضاً ضمانة الإستمراريّة في الوفاء للتعليم الرسوليّ: فما يبشّر به الرّسل، أي كلّ واحد منّا اليوم، هو ليس وليد رغبتنا، ولا يمكننا أن نتصرّف بمحتوى التبشير كما نريد، فنحن نرتبط عضويّاً بجماعة الرّسل، وَصَلَنا تعليم المسيح عبرهم، ومن خلالهم الى من تلاهم عبر وضع اليد، وصولاً الى أيّامنا هذه. إن ضمانة تعليمنا اليوم ومصداقيّتهم هي مدى ارتباطه بتعليم الرسل، وعمليّاً بمدى أمانتنا للإنجيل، للتعاليم الرسوليّة، للمجامع المقدّسة، للتعليم الكنسيّ وبمدى اتّحادنا بالأسقف المكانيّ، الّذي يجسّد التعليم الرسولي ويصونه.

قبل إعلان الأسماء، يعلن متّى الدعوة، لأنّ دعوة الرّب تتخطّى حقيقة التلاميذ التاريخيّة لتشمل الرسل كلّهم، أي كلّ واحد منّا اليوم. دعوة الرّب الى تلاميذه، الى أسباط إسرائيل الجديدة، أي الأمم كلّها، هي "أَولاهُم سُلطاناً يَطرُدُونَ بِه الأَرواحَ النَّجِسَة ويَشْفونَ النَّاسَ مِن كُلِّ مَرَضٍ وعِلَّة". إن النّص اليوناني يحمل تفصيلاً مهمّاً لم يرد في الترجمة، فالنصّ الأصليّ يقول: "فأَولاهُم سُلطاناً يَطرُدُونَ بِه الأَرواحَ النَّجِسَة لكيما يَشْفوا مِن كُلِّ مَرَضٍ ومن كلّ عِلَّة". السلطان المعطى للرسل هو "طرد الشياطين"، وما الشفاء من كلّ مرض وعلّة سوى نتيجة طبيعيّة للإنتصار على "الشياطين".

نعلم أن شعب العهد القديم كان يظنّ أن الأمراض كلّها تأتي نتيجة لمسّ شيطانيّ، وأن المرض والعلل هي نتيجة وجود الشيطان في حياة المرضى. لا نريد أن نعود الى منطق العهد القديم، ولا نريد أن نقول أن المرضى هم اشخاص مسّهم الشيطان أو سكنهم. ولكنّ الرّب يوضح من خلال هذا القول أنّ الله ليس سبب الألم والشرّ في العالم، بل هي خطيئة الإنسان التي تبعده عن الله وتتركه تحت رحمة الشرّ والألم. الإنسان، بخطيئته، ينفصل عن الله مصدر حياته، وبالتالي فهو يختار الموت بقراره الإنفصال عن الربّ مصدر الحياة.

دعوة التلاميذ، دعوتنا نحن اليوم، هي أن نعلن لإخوتنا أين هي الحياة الحقيقيّة، هدفنا الأوّل ليس شفاء العلل والأمراض، بل أن الشفاء يأتي نتيجة دعوتنا الأولى: إعادة الإنسان الى علاقته السليمة مع الرّب إلهه. هدفنا هو شفاء القلب، شفاء الكيان، شفاء الإختيار، دعوتنا هي أن نعيد الخاطيء الى حبّ الله. إخوتنا اليوم يتألّمون بأمراض كثيرة، وبعلل شتّى، لأنّهم يفتّشون عن سعادة القلب في الأماكن الجافّة، يفتّشون عن مياه الحياة في الأبار الموحلة، يفتّشون عن ملء فراغ قلبهم بالسعادة العابرة، فلا يصلون سوى الى الفراغ، الى الألم، الى الشقاء.

دعوتنا التفتيش عن سبب الألم الأوّل، والرّب أعطانا كلّ قدرة على طرد الشيطان لنشفي من كلّ مرض وعلّة"، فهل نفتّش عن سبب الألم الأوّل؟ هل نسعى الى معالجة أسباب المرض بدلاً من التفتيش عن علاج النتيجة؟ إن خطيئة شبابنا اليوم ما هي إلاّ تفتيش عن فرح يرغبون به ولا يجدونه، يرغبون في أن يكون قلبهم مليئاً، يخافون من وحدة مجتمع يتفكّك، يخشون حكم الآخرين الظالم، يهربون من واقع عائلات مفكّكة، يريدون الحبّ ولا يجدونه. ماذا نفعل نحن؟ أنداوي النتييجة بدلاً من مداواة السبب؟ أنرجم الخاطيء بدلاً من تبديل واقع الخطيئة؟ المسيح أعطانا كلّ سلطان لنعالج سبب الخطيئة، أعطانا منطق الإنجيل نبدّل به عائلاتنا، مجتمعنا، وطننا والكون بأسره. بقيم الإنجيل نقدّم للعالم منطقاّ جديداً، لا منطقاً مبنيّاً على الشر والعنف والحقد والإنتقام، على على المغفرة والمحبّة وقبول الآخر، الآخر المختلف عني. حين نقدّم لشبيبتنا عالماَ على قدر طموحها، لن تسعى الى التفيش عن فرحها في قمامات الخطيئة، حين أعطي للشاب شهادة عن جمال الحياة وقيمة الإنسان، حين أريه أنّي أحترمه وأثق به، سوف يعرف أن الله قادر على أن يعطيه الفرح. حين أحبّ الآخر، يمكنني أن أشفي علله وأمراضه، فالحبّ وحده يذهب الى سبب الداء، الحبّ وحده يقدر أن يداوي ويحرّر ويشفى الجراح.

أسماء الرسل: يورد متّى أسماء الرسل الإثني عشر كما ترد في أناجيل أخرى، إنّما ما يلفت نظرنا هو أنّه لم يورد ما قاله مرقس عن أن الرّب أرسلهم إثنين إثنين ليبشّروا (مر 6، 7)، إلاّ أنّه يورد الأسماء بطريقة تحمل إشارة مهمّة. فقد أورد الأسماء بطريقة الأكبر الى الأصغر، لا من ناحية العمر بل من ناحية الأهميّة في الجماعة. فكلمة "الأوّل" قبل بطرس لا تعني أوّل التلاميذ من ناحية تاريخ الدعوة، بل من ناحية الوظيفة التي أعطاه إيّاها الرّب بأن يكون الأوّل في جماعة الرسل. أمّا إندراوس فيورده مباشرة بعد بطرس بسبب رباط القرابة الأخويّ ولأنّهم دعيوا معاّ، أمّا يعقوب ويوحنّا، فهما، الى جانب كونهما إخوة، كانا يشكّلان الى جانب بطرس في الأناجيل، مجموعة التلاميذ المصغرّة التي كانت دوماَ حاضرة في الأحداث المهمّة، لا سيّما في حدث التجلّي. لقد كان يعقوب رأس جماعة أورشليم، وبطرس رأس جماعة إنطاكيا ومن بعدها روما، أمّا يوحنّا فكان رأس الكنائس التي أسّسها في آسيا الصغرى وفي العالم اليونانيّ. لذلك ورد إسم هؤلاء التلاميذ معاّ في بداية اللائحة.

أمّا القسم الثاني فيتميّز بأنّه يورد أسماء التلاميذ إثنين إثنين، يربط بين كلّ إثنين واو العطف، فبينما نجد الأربعة الأول تحت شكل: "بطرس وإندراوس ويعقوب ويوحنّا"، يبدأ متّى بإيراد الأسماء على الشكل التالي: فيليبّس وبرتلماوس، توما ومتّى،... فهل يشير الأمر الى فرق الإثنين الّذين كانوا ينطلقون معاَ كما أورد مرقس؟

لا يمكننا أن نستننج الكثير من ناحية اللائحة هذه، فمستقبل هؤلاء الأشخاص سوف يورد بعضها، وبشكل مقتضب، سفر أعمال الرسل، أمّا ماضيهم فيبدو من خلال متىّ غير واضح تماماً: فمتّى العشّار قد تبع المسيح الّذي دعاه فترك كلّ شيء، وبطرس هو "الأوّل" وهو "الصخرة"، وهما لقباه، الأوّل أعطته إياه الكنيسة، لأنّه الأوّل بين الرسل، والثاني أعطاه إيّاه الرّب، جاعلاً إيّاه الصخرة التي سوف يبني الرّب عليها كنيسته.

أما الألقاب الأخري التي يقدّمها متّى، فتتعلّق بسمعان "القانوي" ويهوّذا "الإسخريوطيّ"، وقد تعدّدت النظريّات حول هذين اللّقبين، ففيما يظّن بعض العلماء أن سمعان كان من "قانا" أو "الكنعانيّ"، يقدّم آخرون نظرّية أن الكلمة اليونانيّة هي نقل حرفّي لمرادف آرامي مشتق من فعل "قنا" ويعني الغيور، وبالتالي فهو من فريق الغيورين العنيف، وقد ارتدّ الى المسيح تاركاً حزبه القديم. أمّا يهوّذا، فلقبه قد يكون من العبرية "أيش قريوت" أي ابن قريوت، مدينة صغيرة تقع جنوب مدينة حبرون (راجع يش 15، 25)، وبالتالي يدّل على أصل يهّوذا، أو هو لقب مشتقّ من كلمة "سيخاريوس"، أي حامل السكيّن، وهي فرقة مقاومة للرومان إعتمدت على القتل للعيش، ولم يوفّروا حتى بني أمّتهم.

 

الرسالة:

بعد إعطاء السلطة، إعلان الرسالة وتسمية جماعة الرّسل، يذكر الرّب حقل الرسالة: "لاتَسلُكوا طَريقاً إِلى الوثَنِيِّين ولا تَدخُلوا مَدينةً لِلسَّامرِيِّين،  بَلِ اذهَبوا إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ من بَيتِ إِسرائيل ". يذهلنا هذا القول، لماذا يمنع الربّ تلاميذه من الإنطلاق الى الوثنيّين، لماذا لا يريد أن يعلن البشارة للسامريّين رغم كونهم يهود؟ هل يكفي أن نقول أن متى كتب إنجيله للمسيحيّين من أصل يهودّي لنشرح لماذا هذه الأقوال؟ أيكفي أن نقول أن همّ متى كان إقناع اليهود بأن الرّب جاء يخلّصهم أوّلاً؟ إنّها شروح لا تفي الغرض لأنّ الإنجيل، وإن كتب الى جماعة معيّنة، فهو كلمة الله الى كلّ البشر!

قول المسيح هذا هو دعوة للإنطلاق الى اليهود أوّلاً، وبالتالي فهو إتمام لوعد الخلاص. فإن كان الكون كلّه يخلص واليهود لم تصلهم الكلمة، فهذا سوف يعني أن الله لم يكن صادقاّ في العهد القديم، وسوف يعني أن المسيح جاء يعلن ديانة جديدة. إن المسيح جاء يكمل العهد القديم ويوصله الى غايته، جاء يحقّق إرادة الآب الخلاصيّة: لا بد أن يُعلن الخلاص في أسباط إسرائيل أوّلاً، لأنّ مخطّط الربّ كان أن "بنسلك سوف تتبارك الشعوب بأسرها". لقد أمر الرّب تلاميذه أن ينطلقوا بانجيلهم من جماعتهم، ليحملوا البشارة منها الى الكون بأسره. فلا يجوز أن تبقى "خراف الله" تائهة، والرّب قد تجسّد في وسطها، لقد أُعلنت البشارة في وسطها لتكون وسيلة الخلاص للسامريّين وللوثنيين. فإن كان خلاص الوثنييّن هو مثل "غصن طُعّم في جذع الزيتونة المقدّسة" كما يقول بولس، فلا بدّ أن يعلن للخلاص للجذع أوّلاً، فكيف يمكن لزيتونة المقدس أن تقدّس العالم، إن لم تكن قد تكرّست بعد ببشرى الخلاص؟

لذلك أرسلهم الرّب اثني عشر، أثنا عشر تلميذاً ينطلقون الى القبائل الإثني عشر ليعلنوا لها أن المسيح قد أتى، وأن الخلاص قد أٌعلن. ومن إسرائيل لا بدّ أن تُعلن الكلمة حتى أقاصي الأرض.

لقد دعي التلاميذ لإعلان حقيقة الإيمان: "إن ملكوت الله قد اقترب". لن يكون التلاميذ أوّل من أعلن هذه الحقيقة، فأول شخص أعلنها كان يوحنّا المعمدان، في كلامه عن حمل الله المتجسّد، والمسيح أعلن الحقيقة نفسها متكلّماً على خلاص الرّب الذي بدأ يثمر، والآن صار التلاميذ مدعوّين لإعلان هذه الحقيقة، حقيقة ملكوت تحقّق بحلول المسيح في أرضنا، تحقّق بموت المسيح من أجلنا.

إن هذه الكلمات تحمل رسالة للتلاميذ أيضاً: يوحنّا المعمدان قد مات من أجل إعلان الحقيقة هذه، والمسيح قد مات أيضاً لأنّ الكون لم يكن مستعدّاً لاستقبال هذا النوع من الملكوت، والآن على التلاميذ إعلان هذه الحقيقة والعمل على بناء هذا الملكوت، رغم معرفتهم أن هذه الحقيقة لا بدّ ان يعلنوا عنها بشهادتهم، كما فعل يوحنّا، وكما تمّم المسيح.

ونحن أيضاً مدعوّون لهذا الإعلان، فنحن رسل الميسح اليوم، تكرّسنا له بعمعوديّتنا، نسمع كلمته تدعونا لأنّ نكون من عداد تلاميذه، لنأخذ منه قدرة قتل الشّر في عالمنا وفي حياة إخوتنا. مدعوّون لأنّ نعلن هذه الحقيقة لا بالمنطق فقط أو باللسان، بل بالشهادة، بشهادة الحياة أوّلاً، لكيما يؤمن بصحة رسالتنا من يشاهد أعمالنا الحسنة، وبشهادة حبّنا، ليعرف العالم أنّنا مسيحيّون لأنّنا نحبّ بعضنا بعضاً، وصولاً الى بذل الدم إذا أوجب حبّاً بالمسيح ووفاء له. فنحن مسؤولين اليوم عن خلاص إخوتنا وعن استمرار بشارة الرسل، فلا يحقّ لنا التراجع، ولا أن نقول "أنا لست معنيّاً، فهناك آخرون يعلنون"، فبمعموديّتي دعاني الرّب لأعلن إنجيله، في بيتي، في عملي، في دراستي، في ديري، في رعيّتي، مع أصدقائي، لا بكثرة الكلام، بل بعيش منطق الإنجيل وبالإلتزام به حيثما كنت، دون خوف ولا خجل، أعلن إرادة الله، وحبّ المسيح، وأعلن منطق المغفرة والمصالحة والمحبّة والسلام في عالم يتألّم من الإنقسام والحقد والدم والحروب العبثيّة.