عظات
١٦‏/٥‏/٢٠١٧ زمن العنصرة | الأب بيار نجم ر.م.م

الأحد الثامن من زمن العنصرة

يقدّم لنا متى نصّ الإنجيل هذا ضمن شكل أدبيّ يظهر التناقض بين فريقين، ويورد ثلاث وجهات نظر:

- الفرّيسيّون يجتمعون ويتشاورون، ليروا الطريقة الأمثل للتخلّص من يسوع الناصرّي. والنتيجة التي سوف يصلون اليها هي قتل يسوع. لقد قرّروا اعتماد منطق العنف.

- الجموع تتبع يسوع، يحملون اليه مرضاهم، يتبعون المسيح الشافي، صانع المعجزات، يلحقونه لغاية ما في نفوسهم: منهم من يريد الشفاء، منهم من يفتّش عن رؤية العجائب، منهم من يريد أن يستمع إلى تعليم الرّجل الّذي كسب عداوة الفرّيسيّين، منهم من يريد أن يرى قائداً يقدر أن يحرّر إسرائيل من احتلال الرومان. لقد قرّر الجمهور اعتناق منطق المصلحة.

- الله الآب أعلن المنطق الإلهيّ، منطقاً لا يتوافق مع منطق الفرّيسيّين، ولا مع منطق الحشود التي تتبع يسوع. لقد أعلن الرّب منطق التتلمذ: نبذ العنف، إعتناق مبدأ السلام، الحبّ، الصمت والخدمة.

متّى 12: 14-21

وخَرَجَ الفَرِّيسِيُّونَ فَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِيُهْلِكُوه. وعَلِمَ يَسُوعُ بِالأَمْرِ فَانْصَرَفَ مِنْ هُنَاك. وتَبِعَهُ كَثِيرُونَ فَشَفَاهُم جَمِيعًا، وحَذَّرَهُم مِنْ أَنْ يُشْهِرُوه، لِيَتِمَّ مَا قِيْلَ بِالنَّبِيِّ آشَعيا: "هُوَذَا فَتَايَ الَّذي اخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي الَّذي رَضِيَتْ بِهِ نَفْسِي. سَأَجْعَلُ رُوحي عَلَيْهِ فَيُبَشِّرُ الأُمَمَ بِالـحَقّ. لَنْ يُمَاحِكَ ولَنْ يَصيح، ولَنْ يَسْمَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ في السَّاحَات. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَنْ يَكْسِر، وفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لَنْ يُطْفِئ، إِلى أَنْ يَصِلَ بِالـحَقِّ إِلى النَّصْر. وبِاسْمِهِ تَجْعَلُ الأُمَمُ رَجَاءَها".

لقد قرّر الفرّيسيّون قتل يسوع لأنّه اجترح معجزة يوم السبت، أعاد لمشلول اليّد القدرة على الحراك، على العمل، على كسب عيشه. لم يعد مضطرّاً للتسوّل على أبواب الفرّيسيّين والمقتدرين، بل صار بإمكانه تحمّل مسؤوليّته منفرداً. لقد عمل يسوع ليس فقط على شفاء الرجل، بل على تحريره من كلّ أشكال استعباد المجتمع له. المسيح يريدنا أن نصل إلى حالة المؤمن الناضج. كم من فرّيسيّين في يومنا هذا لا يرغبون في رؤية شبيبتنا تصل إلى حالة النضج الإنسانيّ؟ كم من التيّارات الفكريّة التي تسعى إلى تكبيل أيدي شبيبتنا كما كبّل المرض ذاك المريض؟ كم من مذاهب عدميّة تسعى إلى تكبيل شبيبتنا في منطق اللّذة وحدها، طمعاً بمالهم وبمقدّراتهم؟ كم من سياسات ترفض أن يبلغ شبّاننا نضجهم الإنسانيّ والفكرّي خوفاً من فقدان مؤيّدين لهم؟ إنّه منطق مادّية عالمنا المعاصر تسعى إلى قتل رسالة المسيح كما حاول فرّيسيّو إسرائيل قتل منطق المسيح في أيّامهم.

رسالة الإنجيل لا تتوافق ومنطق مجتمع اليوم. فالعالم يبشّر بالسلطة، بالقوّة، بالحروب العبثيّة، بتوازنات الرّعب، بالقدرة الماديّة والإقتصاديّة... العالم يعتمد منطق الفرديّة، والماديّة والوصوليّة الإستغلاليّة. يستغل عمل الفقراء ليزيد من قدرة اقتصاديّة، يقدّم المادّة على خير الإنسان، يوهم الإنسان بقدرته على إعطائه سعادة القلب. أمّا رسالة الإنجيل فهي مختلفة جدّاً، لا تقدّم الأوهام ولا الحلول السهلة: قيم المسيح هي الحبّ الصامت والعامل، غاية المسيح تحرير الإنسان من قيود المادّة والعدم، هو يعلن ضرورة الحبّ في مجتمع مبنيّ على الحقد، ويعلن السلام في عالم يسعى إلى الإستقرار بواسطة الحرب، يعلن التضحية في وسط منطق الأنانيّة والبحث عن المصلحة الشخصيّة، يعلن ضرورة التعاضد بين الأفراد والدول في عالم تتلف فيه الدول العظمى قمحها، وثلث الكون يتضوّر جوعاً. أقوياء العالم يرون في قيم المسيح خطراً عليهم، يسعون إلى إزالته، يجتمعون، يتشاورون، يخطّطون، كما اجتمع الفرّيسيّون ذاك اليوم، لإبادة يسوع وإبادة إنجيله.

لقد تبعت الجموع يسوع وتركت الفرّيسيّين يخطّطون لقتل المعلّم، لقد سئم العالم الإستعباد، تعبوا من تسوّل الخبز الفاني، تعبوا من وعود الأقوياء الفارغة، وتبعوا يسوع. ما علّه يعطي مبشّر الناصرة وأغنياء أورشليم قد فشلوا؟ هم يسعون إلى ما هو أبعد من بضعة دراهم وفتات خبز بائد، يفتّشون عن سعادة القلب، عن الفرح الحقيقيّ، عن السلام الداخليّ. يفتّشون عن الشفاء الحقيقيّ. وحده يسوع يقدر أن يعطي الرّجاء، الآخرون يعطون اليأس، رغم فرح اللحظة العابرة، يعودون إلى يأسهم ووحدتهم، وحده يسوع يعطي السعادة التي تنمو وتكبر وتستمرّ. لقد تبعوا يسوع، رأوا فيه أبعد من حدود الجسد ربّما، أو ربّما تبعوه لأنّ لا شئ لهم يخسرونه، فلعلّه يفيد. رغم سعيهم اليه، سعوا اليه لحاجتهم، ورغم شفائه إياهم، سوف يصرخون حين يختمر مخطّط الفرّيسّيين "أصلبه، أصلبه". رغم ذلك تبعوه، ورغم ذلك شفاهم.

وبعد أن شفاهم علّمهم: طلب منهم الصمت، لا خوفاً من اليهود، بل لأنّ لا بدّ لهذا الإختبار أن ينضج، لا بدّ أن يتعرّفوا إلى يسوع أوّلاً ليخبروا عنه. طلب منهم الصمت والدخول في علاقة حبّ متأمّلة. طلب منهم الصداقة، ولا صداقة دون معرفة، ولا معرفة دون سماع، ولا سماع دون صمت. لذلك كان لا بدّ لهم أن يصمتوا، أن يتركوا في داخلهم اختبارهم لينضج. وحين يتعرّفون على المسيح الحقّ، وليس فقط على المسيح الصانع المعجزات، بل على المسيح المتألّم والمائت والقائم من بين الأموات، ويقبلوا حقيقته في حياتهم، عندها فقط يمكنهم أن يقولوا: لقد عرفت المسيح، فعندها فقط يصبحون تلاميذ.

وحقيقة المسيح هذه يعلنها الله الآب بنفسه: المسيح ليس هو المقاتل المحارب العنيف، الّذي جاء يبيد أعداء الله وأعداء إسرئيل شعبه. المسيح، وتلميذ المسيح على مثاله، هو الخادم: هو الّذي وضع وجوده وكيانه في خدمة مخطّط الله ومشروعه الخلاصيّ.

المسيح، وتلميذه على مثاله، هو الكائن المسالم الّذي جاء يغيّير حالة الكون بهدوء الحبّ وتأنّي المغفرة. هو الّذي جاء يعلن أن قوّة الإنسان باطلة، وإرادة العنف لا تفيد نفعاً، فخلاص العالم يكمن في روح السلام، والخدمة والمحبّة.

لذلك أعلن الآب أن المسيح هو فتاه، إبنه وخادم إرادته، المسالم الّذي " لا يُخاصِمُ ولا يَصيحُ، وفي الشَّوارعِ لا يَسمَعُ أحدٌ صوتَهُ. قصَبَةً مَرضوضَةً لا يكسِرُ، وشُعلةً ذابِلَةً لا يُطفئُ" كما قال أشعيا النبيّ. فالعالم سئم الصراخ والضجيج والعنف والحروب وعلم أن قوّة الإنسان لا يمكنها أن تعطي الخلاص وحدها، فلا بدّ من روح الله يبدّل واقع العالم.

هذا هو ابني الّذي به ارتضيت، قالها الله عن مسيحه، وعن كلّ تلميذ في الأمس واليوم، اعتنق مبدأ المسيح، مبدأ المسالمة والحبّ والمغفرة. مبدأ إعلان الحقيقة والعدالة لأبناء الله دون حرب ولا عنف. مبدأ القبول بالمختلف رغم اختلافه. مبدأ الوقوف إلى جانب المحتاج والضعيف والوحيد والمهمّش. فلنكّف عن الضجيج ولنمتنع عن الصراخ، فلنعترف أن قوّتنا لم تصل إلى خلاص العالم، بل زادته قسوة، ولنتّضع ونعتنق مبدأ المسيح لنصبح على مثاله، مسالمين، ننبذ العنف والحقد والحرب، خدّامًا للإنسان ولقيمة الإنسان ولكرامته لأنّنا في الإنسان نرى الله متصوّراً. ولنصبح مثل المعلّم، واقفين إلى جانب الأكثر ضعفاً وحاجة، نلمسهم ونشفي جراح قلبهم ووحدتهم كما فعل السيّد، ونعلن لهم أن المسيح لا يزال حاضراً، ولا يزال من خلالنا يعمل.