عظات
٢٥‏/٥‏/٢٠١٧ زمن العنصرة | الأب بيار نجم ر.م.م

الأحد العاشر من زمن العنصرة

شفاء آخر ومؤامرة أخرى: يسوع يشفي الرجل الأعمى الأخرس، والفرّيسيّون يكملون مؤامرتهم. مشكلة اليهود مع يسوع هنا لم تكن فقط في الإطار الروحيّ اللاهوتيّ، بل تداخلت فيه السياسة أيضاً فأصبح يسوع خطراً على الشعب، وصار موته لا مفرّ منه.

(متّى 12: 22 - 32)

حِينَئِذٍ قَدَّمُوا إِلى يَسُوعَ مَمْسُوسًا أَعْمَى وأَخْرَس، فَشَفَاه، حَتَّى تَكَلَّمَ وأَبْصَر. فَدَهِشَ الـجُمُوعُ كُلُّهُم وقَالُوا: "لَعَلَّ هـذَا هُوَ ابْنُ دَاوُد؟". وسَمِعَ الفَرِّيسِيُّونَ فَقَالُوا: "إِنَّ هـذَا الرَّجُلَ لا يُخْرِجُ الشَّيَاطِيْنَ إِلاَّ بِبَعْلَ زَبُول، رئِيسِ الشَّيَاطِين". وعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُم فَقَالَ لَهُم: "كُلُّ مَمْلَكَةٍ تَنْقَسِمُ على نَفْسِها تَخْرَب، وكُلُّ مَدِينَةٍ أَو بَيْتٍ يَنْقَسِمُ على نَفْسِهِ لا يَثْبُت. فَإِنْ كانَ الشَّيْطَانُ يُخْرِجُ الشَّيْطَان، يَكُونُ قَدِ انْقَسَمَ عَلى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ وإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَ زَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطين، فَأَبْنَاؤُكُم بِمَنْ يُخْرِجُونَهُم؟ لِذـلِكَ فَهُم أَنْفُسُهُم سَيَحْكُمُونَ عَلَيْكُم. أَمَّا إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطين، فَقَدْ وَافَاكُم مَلَكُوتُ الله. أَمْ كَيْفَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ القَوِيِّ ويَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبُطِ القَوِيَّ أَوَّلاً، وحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟ مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ. ومَنْ لا يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُبَدِّد. لِذلِكَ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ خَطِيئَةٍ سَتُغْفَرُ لِلنَّاس، وكُلُّ تَجْدِيف، أَمَّا التَّجْدِيفُ عَلى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَر. مَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلى ابْنِ الإِنْسَانِ سَيُغْفَرُ لَهُ. أَمَّا مَنْ قَالَ عَلى الرُّوحِ القُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لا في هـذَا الدَّهْر، ولا في الآتِي.

عنف الفرّيسيّين هذه المرّة لم يأت مباشرة بسبب عمل الشفاء الّذي أتّمه المسيح، بل جاء نتيجة كلام الجموع: " أما هذا ا‏بنُ داودَ". إن لقب إبن داود قد كان ليس لقب المسيح المخلّص شعبه من الخطيئة فقط، بل هو أيضاً المسيح القائد الّذي يأتي ليجلس على عرش إسرائيل ويقود الشعب في الحرب ضدّ الأعداء. بدء الكلام عن يسوع كالمسيح ابن داود كان السبب الأوّل لقرار الفريّيسيّين، والصدّوقيّين أيضاً، بإبادة الناصريّ. لقد كانوا قد دخلوا في حالة مساكنة مع المحتلّ، وكانوا يرون في يسوع خطراً على استقرار أرضهم، إنّما بنوع أخصّ على الإمتيازات التي كانوا ينعمون بها في ظلّ الإحتلال الرومانيّ.

يلفت نظرنا في المعجزة هذه نوعيّة المرض: هو أعمى أخرس. طبيعيّاً، وفي مرّات عدّة في الإنجيل، نجد مرض "البكم والطرش"، وهما غالباً ما يتلازمان، فمن لا يسمع لا يمكنه أن يتعلّم النطق. ولكن مرض هذا الرجل الأعمى الأخرس يحمل أيضاً بعداً لاهوتيّا وروحيّاً، ولا يجب أن نحصره فقط بالبعد البيولوجيّ: العمى هو عدم قدرة الإنسان على رؤية الآخر،على رؤية الجوهرّي، على رؤية الحقيقة، والإنغلاق على الظلام الداخليّ وعدم معاينة نور العالم ونور الله. أمّا البكم فهي أيضاً صورة عن الإنسان غير القادر على التعبير، على الإعلان، على المديح، على التهليل وإعلان الإيمان. هو الإنسان غير القادر على الدخول في علاقة مع الأخر: مع الله ومع الإنسان.

هذا الرجل المريض أصبح ممثّلاً لشعبه ولإنسانيّتنا: هو صورة عن شعب إسرائيل الّذي رغم حبّ الله له فشل في رؤية الجوهريّ، وأهمل معاينة الله. عمى هذا الرجل يعكس عمى الشعب الّذي لم يقدر، لا بل رفض أن ينظر الى الحقيقية التي يقدّمها له المسيح. لم يقدروا أن يروا في يسوع سوى صانع معجزات متجوّل، يطرد الأرواح، ولم يقدروا على الوصول الى الحقيقة الجوهريّة والأساسيّة، لم يتعرّفوا على يسوع الّذي يحبّهم، على المخلّص الّذي جاء يعيدهم الى بنوّة الله ويرمّم العهد الّذي كان قد انكسر ببسبب خطيئتهم وابتعادهم عن الله ورفضهم لإرادته في حياتهم.

كما أنّ شعب الله المختار قد تحوّل الى شعب صامت، شعب أبكم. البكم هو رمز عدم قدرته على الدخول في علاقة مع الله إله العهد: هو بكم الشعب الرّوحي، حين تصبح صلاتهم مجرّد واجب وعادات عليهم مراعاتها، وتتحوّل عن معناها الأوّل كحديث حبّ بنويّ مع الله، علاقة حبّ دائمة معه، ومن خلاله مع الآخرين.

بشفاء هذا الرجل، شفى المسيح الشعب أيضاً، أعاد اليه القدرة على الرؤية، فعرفوا أنّه ابن داود، وأعاد اليهم القدرة على الكلام، أخرجهم من صمتهم وكسر حاجر خوفهم، فأعلنوا "أن هذا الرجل هو ابن داود". لقد صاروا قادرين على رؤية الجوهريّ والبحث عنه، وصاروا يستطيعون الإعلان جهاراً بحقيقة يسوع، مسيح الله وابن داود، الّذي طالما انتظروه ليهب شعبه الخلاص.

 

هي قصّة الشعب، ولكنّها قصّة كلّ واحد منّا أيضاً: نحن مثل هذا الرجل، أعميت أبصارنا عن رؤية الجوهريّ، فصرنا نفتّش عمّا هو عابر، ونهتم بما ليس هو الجوهريّ والأساس. نهتم بجسدنا، بأناقتنا، بلهونا، بلذّتنا، نبحث عن أخر مبتكرات الموضة، تبهر عيوننا أنوار نجوم هذا العالم، فنعجز عن رؤية الحقيقة الوحيدة التي لا تعبر، حقيقة الله ربّ الحياة ونبع الحبّ.

مثل هذا الرجل أصبحنا أيضاً بكماً لا نقدر على النطق، لا نستطيع الدخول في حوار مع الله، في حديث حبّ بنويّ مع الأله الّذي ندعوه "أبانا"، نصاب بالبكم الرّوحيّ، نصبح غير قادرين على الصلاة، أو غير مهتمّين بها. هذا هو بكمنا الرّوحيّ، نعطي الأولويّة في حياتنا لما هو ثانويّ، ونتقاعس عن إعطاء ولو القليل من الوقت للكلام مع الرّب. نصرف ساعات من الكلام الفارغ، في السياسة، وفي المشاكل الإقتصاديّة، وفي مشاكل عملنا، وفي مشاريعنا وطموحاتنا، ونجد ساعة الصلاة عبئاً علينا، نصبح غير قادرين على الكلام.

 

ولكن الله لا يتركنا حين نتركه نحن، ولا يملّ من محاولة إعادتنا الى سابق حبّنا له: هذا الأعمى الأخرس لم يكن أطرش كما في حالات معجزات أخرى، ولهذا الأمر معنى رمزيّ أيضاً: إن الإنسان يقدر دائماً، وحتى في أحلك لحظات عماه وبكمه، يبقى قادراً على السماع. يقدّم له الرّب في كلّ لحظة إمكانيّة العودة اليه، يكفي فقط أن يفتح أذنيه، أن يتّضع ويسمح لكلمة الله أن تدخل أذنه وتخرق كبريائه لتدخل في أعماق كيانه. لقد سمع الرجل هذا كلمة يسوع فخلص، وسمع الشعب إرادة الله من خلال هذا المعجزة فانقتحت عيونهم وأدركوا الحقيقة، فخرجوا من بكمهم وأعلنوا حقيقة المسيح.

وحدهم الفرّيسيّون بقيوا مصرّين على حقد أعمى قلوبهم وكبرياء ربط لسانهم عن الإعتراف بحقيقة يسوع الناصرّي. هم أيضاً صورة عنّا في حياتنا أحياناً: كم من المرّات يتكلّم الرّب اليّ، يعلن لي إرادته في حياتي، يرسل لي الإشارة تلو الأخرى، يكشف لي دعوتي في حياتي لأعلن مجده، فأُفضِّل الخيار الأسهل، أختار الهروب، أبقي مصرّاً على عماي، وأغمض عينيّ إراديّاً لئلا أرى حقيقته. أغلق أذنيّ لأبعد كلماته عنّي، أخاف التضحية، أخشى صعوبة اتّباعه، أفضّل سهولة منطق العالم المعاصر، أجد أن الإنتقام ألذّ من الصفح، والسلطة تغري أكثر من الخدمة، وجمع المال أسهل من الوقوف الى جانب الفقير. أغلق عينيّ وأصمّ أذنيّ لأبقى في سعادتي المزيّفة.

هذه هي خطيئة التَّجديفُ على الرُّوحِ القُدُسِ التي لا تُغتفرَ، حقيقة أن أعلم ما هي إرادة الله وأرفضها. خطيئة أن أعرف ما هو الخير وأرفضه بإرادتي، خطيئة أن أعلم أن الله هو خيري الأسمى، وأقرّر بإرادتي وبحرّيتي أن أغلق عينيّ عن هذه الحقيقة، لأكمل في وجودي في سهولة المادّة ولذّة اللهو.

هكذا فعل الفرّيسيّون، خبراء الكتاب المقدّس، العالمون أن الله سوف يظهر نفسه في آخر الأيّام من خلال "العميان الّذين يبصرون، والبكم التي تنتطلق ألسنتهم، والصمّ التي تتفقّح آذانهم، والموتى الّذين يقومون". وحين رأوا هذه الأمور تتحقّق، نعتوا الرّب بالخاضع لإبليس، يعمل باسمه. خطيئتهم مثل خطيئتنا، نعلن الخير شرّاً والشرّ خير. نعطي التبرير لشرّنا ولخطيئتنا، ونعلم في أعماقنا أن ما نقوم به سيئ، ولكنّ لذّته تغرينا. نجد أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: الخير أو الشرّ، الله أو بعلزبوب، الحبّ أو الحقد، الصفح أو الإنتقام، التسلّط أو الخدمة، الأنانيّة أو بذل الذات. نعلم أن خلاصنا يكمن في اختيار الله، ورغم ذلك نتردّد، فالخطيئة لذيذة، مغوية أمّا إرادة الله فصعبة ومليئة تضحيات. لقد دعانا الله لنكون في حياتنا أبطالاً، أن نكون مسيحيّين يعني أن نختار الدرب الوعرة والطريق الشاق. فماذا نختار؟