مقالات
٢١‏/٥‏/٢٠١٨ Fiat Lux | أنطوانيت نمّور

الثالوث: حياة النفوس!

الثالوث: حياة النفوس!

قراءة في أيقونة...

من محفوظات معرض تريتياكوف، أحد أهم المتاحف الروسية، أيقونة فريدة من نوعها: إنها "أيقونة الثالوث الأقدس" التي كتبها القديس الروسي أندريه روبليف.

مقاربة روبليف لرمزية الثالوث موضوعها مستقى من سفر التكوين في الفصل 18 والذي يتحدث عن ضيافة إبراهيم للرب من خلال ثلاث ملائكة إستقبلهم في خيمته عند الظهيرة في بلوطات ممرا. وهذه المقاربة تندرج في سياق تقليد تفسيريٍّ قديم. لكن إبداع روبليف، كان بطريقة التعبير وليس بتقديم موضوع جديد من خلال أيقونة... الخطوط والألوان هنا أتت لتخبر بشكل فريد عن وحدة الثالوث الأقدس. 

في ما ننظر إليه  يقارب الفنان الوحدة في الثالوث من خلال تشابه الثلاثة ملائكة، وبالهالة الواحدة التي تتشكل حول رؤوسهم. ويعتمد تقنية شائعة في الأيقونات تسمى "المنظور العكسي". حيث تعمّد أن لا يبدو الشخص الموجود في الخلف أصغر حجماً من الموجودين في الأمام  وهذا ما يُعرف بتحطيم النسب المادية. 

والثلاثة لهم نفس الحجم والشكل، يجلسون على عروش متشابهة تماماً، يلبسون نفس نوع الأثواب ولكن بطريقة وألوانٍ متمايزة. والثلاثة يحملون بإحدى أيدهم نفس "العصا" دلالة على السلطة.

بالتمعن في الأيقونة نرى وكأن المحور يتمركز في اليسار بدل الوسط، فنظرات ملاكي الوسط واليمين يتوجهان صوب ملاك اليسار: الفكرة هنا طبعاَ لاهوتية... فملاك اليسار يرمز الى الآب وهو بحسب تعليم الكنيسة: المصدر – دون الدخول في المنطق أو التتابع الزمني طبعاً- نحن نقول عن الإبن والروح "المنبثقين من الآب".

فلنتمعن أكثر بالأيقونة:

الملاك الأول، ملاك اليسار! نرى فقط  قسماً من وجهه، هو يشير إلى الآب "غير المدرك" – 

"أنا هو الذي هو"... الغامض والذي لا يُرى سوى من خلال عمله في الخلق: لذلك تمّ تصويره بلباس غير واضح اللون، وذلك في إشارة إلى الغموض الذي يحيط به. سوف ننتظر الإبن  ليكشف لنا وجه الآب على ما يقوله يوحنا الإنجيلي: "الله لم يره أحد قطّ. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر" (يو 1 :18). يداه الإثنتان تقبضان على العصا: له كل سلطان في السماء و على الأرض! أما البيت خلف رأسه فيذكرنا بما قاله الرب يسوع: "في بيت أبي منازل كثيرة" (يو2:14)... لا ننسى أن المشهد يتحدث عن إستضافة... وهنا ضيافة من نوع أسمى!!

الملاك الثاني، ملاك الوسط: نرى وجهه بوضوح، هو رمز الابن المتجسد، يسوع. لباسه بلون صاف وجلي بين أزرق وبني. فهو، في الأزرق لون السماء: الأقنوم الثاني الإله الحق! وهو أيضاً في البني، لون التراب: المتجسد والإنسان الحق. ونرى في حركة  يده الإشارة الى الطبيعتين.وراءه  ترتفع شجرة تمتد نحو السماء: إنها عود الصليب الذي تحوّل بفضله هو المعلّق عليه: شجرة حياة وسلّم يلغي المسافات بين أرض وسماء!

الملاك الثالث، ملاك اليمين: هو أيضاً من الصعب تمييز كامل وجهه. هو يرمز إلى الروح القدس مانح الحياة وفرحها لذا نراه بين أزرق، رمز الألوهة والأخضر رمز الحياة. كالإبن إحدى يديه حرة فيما تقبض الثانية على العصا... لنتذكر هنا قول القديس إيريناوس الذي يشبه الإبن والروح بيد الآب اليمنى واليسرى: بهما يتمم الآب كل عمل. خلفه نرى صخرة منحنية إما للإشارة إلى الأرض التي يجدد الروح وجهها أو للتذكير بصورة الماء التي خرجت من الصخر تعطي الحياة في مشهد الخروج الموسوي!

الصخرة أو الجبل... هي الأمكنة المرتفعة حيث اللقاء بالله: وهنا دعوة أن نصعد بالروح وبقوة الروح إلى قمم الروح هذه!

وبين الملائكة الثلاثة والكأس المقدسة الموجودة في وسط الأيقونة على المائدة: نميّز وليمة العرس السماوي وإشارة واضحة إلى القداس الإلهي، حيث يتم الدخول إلى حضن الآب والسكن مع الثالوث إنطلاقاً من ال (هنا والآن)...

ولكن يبقى السؤال: ماذا يغير في حياتنا أن يكون إلهنا الواحد في طبيعته ثالوثي؟؟؟

يوضح لنا آباء الكنيسة  أن التوحيد التقليدي ليس كافيًا لتوضيح العلاقة بين الله والعالم. فإذا كان الإله الواحد هو كيان متسام على سائر المخلوقات  وإذا قلنا أنه أيضاً محبة: إذاً هو "يحتاج" للبشر ليحقق ذاته... هذا ما يقودنا إلى إستنتاج خطير حيث يصبح الخلق "حاجة" لله وبالتالي علاقة الله بالإنسان غير حرة ونفعية تنتفي عنها صفة مجانية حب الله للإنسان.

لذلك يشدد الآباء أن وحده التوجه الثالوثي في إله واحد يمكنه أن يوضح علاقة الله بالعالم. وفقط على ضوء فهم سليم لهذه المقاربة نستطيع أن نشكل علاقة سليمة مع ذواتنا والآخر والله...

هذا هو –الإنجيل- الخبر السار: أن الاشتراك بحياة الله أصبح ممكنًا بفضل المبادرة الإلهية، التي جعلت الله "ينصب خيمته" في عالمنا... وبفضل الله الثالوث يدخل تاريخنا الخلاص نعمة مجانية حيث يتمكن المخلوق أن يعاين مجد خالقه و يلمس محبته.

وحول مائدة الحب هذه - التي تدل عليها أيقونة روبليف: نسمع دعوة لنتأمل السر العظيم:

سر الثالوث "الذي هو المصدر والوطن الأول والأخير".

 

صور