الكتاب المقدّس | العهد الجديد
٢٣‏/١١‏/٢٠١٦ العهد الجديد | الأب بيار نجم ر.م.م

ولادة كتب مكوّنة ألعهد الجديد

ولادة الكتب المقدّسة المكوّنة للعهد الجديد

إن الجماعة الاولى كانت تدرك تماماً أن كتابها المقدّس هو العهد القديم الذي رمز ومهّد الى مجيء الرب يسوع. هذا العهد القديم قد نال ملئه واكتماله بتجسد الرب واتمام عمله الخلاصي.  يسوع المسيح لم يكتب أي من كنب العهد الجديد، ولا نجد أنه قد طلب من تلاميذه كتابة البشرى الحسنة، إنما امرهم بالانطلاق واعلانها الى الكون اجمع.

إن إقتناع الجماعة المسيحية الأولى بقرب عودة السيد قد ابطأ عملية وضع محتوى الكرازة في شكل كتابي، لأن الجميع كانوا ينتظرون المجيء الثاني القريب (1 قو 16، 22) وبالتالي فما كان من داعٍ للكتابة للأجيال القادمة.  من هذا المنطلق كان منطقياً أن تكون الرسائل هي اوّل نوع أدبي يبصر النور في العهد الجديد. فهي كانت تهدف الى الاجابة على الاسئلة الطارئة ومعالجة الازمات أو المشاكل المستجدّة في الجماعة الناشئة حديثاً.

بما أن بولس كان يتجوّل في محيط البحر المتوسط مبشّراً بيسوع أضحت الرسائل وسيلة تواصل مع الجماعات التي يتركها ليتجه الى جماعة أخرى.  لهذا السبب نجد أن رسائله هي أقدم وثائق الكتاب المقدّس، ففي حوالي العام 50 كتبت الرسائل التالية:

الأولى الى أهل تسالونيكي، الى أهل غلاطية، الى أهل فيليبي، الى فيلمون. الرسالتان الى اهل قورنتس والى الرومانيين كانت تعكسان الواقع الخاص بكلّ جماعة تتجّه اليها الرسالة، من نزاعات لاهوتية عقائدية، أو تطبيقية أخلاقية ...

في العقد السادس من القرن الأوّل بدأ الرسل الذين اسسوا الجماعات المختلفة يموتون. هؤلاء الاشخاص كانوا بغاية الأهميّة بالنسبة للكنيسة الناشئة، فهم الذين رأوا الربّ وعاشوا معه وسمعوه، وبنوع خاص انهم كانوا شهوداً لقيامته (را 1 قور 15، 3-8).

رحيل هؤلاء الشهود الاساسيين ، خاصة بطرس ويعقوب ويوحنا المذكورين دوماً معاً كنواة لجماعة الاثني عشر، لأهميتهم في قيادة الكنيسة الاولى، قد دفع بالكنيسة الى ايلاء أهمية أكبر لضرورة تدوين أعمال أشمل وأكبر من رسائل للكنائس، فبدأ تدوين الأناجيل.

حتى بعد بداية تدوين الأناجيل، بقيت الرسائل وسيلة فعالة للتواصل مع الجماعات المنتشرة في محيط البحر المتوسط، وبعد موت بولس أكملت جماعته والأشخاص المقرّبين منه ما بدأه الرسول فكتبوا رسائل وفيّة لتعليمه وفكره، وهي ما تسمى الرسائل البولسية الثانوية (2 تس، قول ، أف ).  هذه الرسائل تأخذ طابعاً أكثر شمولاً، لا تتكلّم عن الكنائس بل عن الكنيسة، وكلامها عن مجيء المسيح الثاني يضحي اكثر إعتدالاً. هذه الرسائل كانت تعالج مشاكل السنوات الممتدّة بين 70 و 100 أي بعد موت بولس، بكلام وفكر ولاهوت أمين لتعليم بولس ولاهوته.

في هذه الحقبة كُتبت أيضاً الرسائل التي ندعوها راعوية (2 و 2طيم، طي)، كما كُتبت رسائل بطرس ويعقوب ويهوذا وتعالج مشاكل الجماعات المسيحية ما بعد موت الرسل شهود العيان. هذه الرسائل بالاضافة الى 3 رسائل يوحنا دعيت الرسائل الكاثوليكية او الجامعة لانها تخاطب الكنيسة كلّها وليس الكنائس الخاصة أو كلّ كنيسة على حدة.

 

الأناجيل:

بعد مرحلة الرسائل ظهر نوع آخر من الكتابات المقدّسة لا يخاطب كنيسة معيّنة بشكل مباشر كما هي حال الرسائل البولسية أو الكنيسة بشكل عام لحلّ المشاكل وإعطاء الارشاد اللاهوتي والتطبيقي أو لعرض الحقائق الايمانية بشكل مباشر كما هي حال الرسائل البولسية الثانوية.

بين العام 60 و 70 ظهر الإنجيل الأوّل : إنجيل مرقس.

كلمة إنجيل هي كلمة مشتقّة من اليونانية Euaγγeλioν وتعني البشارة الحسنة، وهو عبارة عن مجموعة روايات لأعمال وأقوال يسوع، وهي مواضيع لم تكن الرسائل تحتويها الاّ بشكل عابر وغير واضح.

لم يكن هدف الانجيل كتابة قصّة بشكل تاريخي وموثّق، فالانجيل ليس قصة حياة موثّقة، إنما مجموعة منتقاة من الأحداث التي شهد عليها التلاميذ حين كانوا مع الربّ، وانتقوا منها ما يجيب على تساؤلات جماعتهم الكنسية.  فتشديد مرقس على ضرروة حمل الصليب والألم في سبيل الملكوت كان من ناحية يعكس حالة الكنيسة التي يتجه اليها هذا الانجيل وهي كنيسة تعاني الاضطهاد ، ومن ناحية أخرى كان يهدف الى تقوية المسيحيين المضطهدين في إيمانهم بيسوع المسيح من خلال مضمون الانجيل. بينما نجد أن انجيلَي متى ولوقا يحتويان على مجموعة أوسع من الأعمال والأقوال والأحداث المتعلّقة بيسوع تظهر لنا أن غاية هذين الانجيليين كانت مختلفة عن غاية كاتب انجيل مرقس ، كما تظهر أن الواقع الاجتماعي والسياسي لم يكن هو نفسه واقع مجتمع انجيل مرقس.

إن ما هو مشترك بين الانجيليين الأربعة هو الهدف: إعلان ما إختبره الرسل شخصياً مع يسوع ونقله الى الاجيال القادمة لئلا يختفي مع موت التلاميذ شهود العيان.

 

كتّاب الاناجيل: لم يرد اسم الكاتب في أي من الأناجيل الاربعة، انما نعتمد في تسميتنا للاناجيل على تقليد وصلنا في نهاية القرن الثاني تُنسب فيه الأناجيل لمتّى أحد الاثنين عشر، والثاني ليوحنا مرقس مرافق بولس وبطرس، والثالث للوقا مرافق بولس وأخيراً ليوحنا أحد الاثني عشر.

ما يهمنا نحن في هذا الأمر هو أن كتّاب العهد الجديد لم يكونوا غرباء عن يسوع المسيح وإن كلام وحياة يسوع قد نُقلت إلينا عبر الأناجيل بطريقة وفيّة عن يدّ أشخاص امناء واوفياء ليسوع المسيح ولانجيله كما سمعه وعاينه من كانوا شهوداً للكلمة.

 

أنواع أدبية أخرى : أعمال الرسل ، سفر الرؤيا وعظات

أعمال الرسل:

هو الجزء الثاني من مجموعة ينسبها التقليد الى لوقا تلميذ بولس وبطرس، يكمل الجزء الأوّل (انجيل لوقا) الذي تنتهي احداثه في اوراشليم.  هذا الكتاب ينطلق من أوراشليم الى اليهودية والسامرة وصولاً الى نهاية العالم. في بداية هذا الكتاب نقرأ «ما لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة التي حدّدها الآب بسلطانه ولكن الروح القدس يحلّ عليكم ويهبكم القوّة وتكونون لي شهوداً من أوراشليم واليهودية والسامرة حتى أقاصي الارض ( أع 1،7-8).  لهذا يعلن كتاب الاعمال انتشار انجيل المسيح في العالم كلّه، وينتهي هذا الكتاب بإعلان حقيقة كون الانجيل لا يخصّ اليهود فقط بل الوثنيين أيضاً (أع 28، 28)

 

سفر الرؤيا

هو نوع أدبي فريد من نوعه في العهد الجديد انما يجد جذوره في ادب العهد القديم ( حزقيال ودانيال) . هذا النوع الادبي كان حاضراً بقوّة في فكر العهد القديم لغاية أيام الكنيسة الاولى، وهذا نستنتجه من كتابي 2 باروخ و 4 عزرا الذين كتبا بعد دمار هيكل أوراشليم في الوقت الذي كتب فيه سفر رؤيا يوحنا.

لا يمككنا ان نقرأ كتاب الرؤيا بمنهجية قراءة كتب العهد الجديد الأخرى، فهو كتب بطريقة رمزية للإجابة أوّلاً على مشكلة الاضطهاد والشرّ الذي تعانيه الكنيسة والتي تطرح تساؤلات حول قدرة الله في خلاص شعبه كنيسته وقدرته على التاريخ وعلى الشر، عن هذه الاشكاليات يجيب سفر الرؤيا متكلماً عن الاحداث التي تتم في السماوات وعلى الارض، وهذا لا يمكن الكلام عليه إلاّ بلغة رمزية مجازية مبالغ بها.

الموازاة بين السماوات والارض تؤكد أن الله يسيطر على التاريخ البشري، وأن اضطهاد الكنيسة على الارض يعكس صراع الله مع ارواح الشرّ.

جديد سفر الرؤيا هو كونه مؤلفاً من رسائل موجّهة الى كنائس محليّة، ليجيب من جهة على تساؤلات هذه الجماعات ويرشدها في سيرتها العقائدية والتطبيقية، ويذكّر مؤمنيها من جهة أخرى أن عمل الله يمتد الى ما بعد التاريخ الاليم الذي تحياه الكنيسة المضطهدة، ويعطيها الرجاء بالانتصار النهائي.

 

الرسائل العظات

نجد ضمن الرسائل قسماً، وإن تمتع بالشكل الخارجي للرسالة فهي ليست رسائل بل هي أقرب الى العظة أو الخطبة التعليمية. ففي حال رسالتي بطرس ويعقوب نجد بعض مميّزات الرسالة، إنما من حيث المضمون فإن رسالة بطرس هي عظة تعليمية أما رسالة يعقوب فهي نوع من الأدب الخطابي الجدلي الذي يبتغي دحض بعض الاخطاء واظهار التعليم الصحيح.  أما الرسالة الى العبرانيين فلا تحوي من ميزات الرسائل إلاّ الخاتمة إنما لا تبتدىء بالسلام الاعتيادي الخاص بالرسائل ولا تحدّد الى من هي موجّهة كما هي حال الرسائل البولسية. نسميها الى العبرانيين لأن محتواها يظهر هذا الاتجاه ، فالنص يخاطب أشخاصاً تخلّوا عن بعض نواحي الايمان المسيحي في سبيل المحافظة على عادات يهوديّة.

أما رسالة يوحنا الأولى فلا تحتوي على أيّ من مميّزات الرسائل: لا السلام الافتتاحي ولا الكاتب ولا الجماعة الموجّهة إليها الرسالة ولا السلام الختامي رغم إنّها تتجه بصيغة المخاطب الى الجماعة (يا أبنائي)، هي ليست عظة مثل رسالة بطرس ولا جدلية خطابية مثل يعقوب، ويميل الشّراح الى القول أنها محاولة تطبيق انجيل يوحنا على واقع جماعة محلية، بعد أن انتقلت الجماعة اليوحنويّة من حالة الخطر من الفصل عن المجمع الى مشكلة مختلفة هي الشقاقات والنزاعات الداخلية.

 

حفظ هذه "الكتب" وقبولها في الجماعات الكنسية

إن مجموعة الكتب هذه التي خُطَّت ما بين سنتي 50 و 150 للميلاد لم تُقبل في الكنيسة ككتاب واحد وفي لحظة واحدة بل شهدت مسيرة ولادة ونموّ حتى بلغت مرحلة اكتمالها حين جمعت في كتاب العهد الجديد الذي لا يزال حتى اليوم يرشد الكنيسة ويحقق حضور المسيح في حياة المعمّد والكنيسة.

إنما نحن نعلم أن هناك العديد من الكتب الأخرى قد كتبت حول يسوع منها ما هو معاصر لهذه الكتابات، إنما لا نجد لها أثراً اليوم (مثل رسالة بولس الى أهل قورنتس والمدعوّة "الرسالة في الدموع" التي يتكلّم عنها بولس في 2 قور 2 ، 1-4 أو الرسالة الى أهل لاوديسّا التي يتكلّم عنها في كول 4 ، 16) ، او أيضاً كتب لا تزال موجودة إنما لا تعتبرها الكنيسة مقدّسة مثل إنجيل بطرس الذي كُتب في أواخر القرن الثاني ورُفض رغم نسبته الى رأس جماعة الرسل.

فعلى أي اساس انتقيت هذه الكتب لتحفظ وقُبلت على أنها من مجموعة الكتب المقدّسة؟

- المصدر الرسولي (الحقيقي او المنسوب): كما قلنا سابقاً لم يكن الرسل انفسهم هم كتبة كلّ الكتب المقدسة بخط اليد، إنما هي كتب كتبت بإشراف، بإسم ، بروح وبسلطة واحد من الرسل.

الاناجيل لا تذكر اسم الكاتب ، ونسبت الى رسولين (متى ويوحنا) والى مرافقين لبطرس (يوحنا مرقس) وبولس (لوقا) إنما أهميتها تكمن في كونها تتعلّق بالجماعة الرسولية وتحوي تعاليماً وفية للرسل الذين رافقوا وسمعوا الرب يسوع ونالوا الروح فأسسوا الجماعات الأولى.

لقد كانت الجماعات الأولى تعتمد هذا المقياس في قبولها لكتاب من الكتب ، لهذا نرى أن سفر الرؤيا قُبل جزئياً في الغرب حين نسب الى يوحنا الرسول، وحين بيّن ديونيسيوس الاسكندري، بحسب ما يروي المؤرخ أوسيبوس (HE 7.25, 6-27) أن يوحنا ليس هو الكاتب تراجع قبول الكنيسة الغربية له.

والرسالة الى العبرانيين لم تقبل في عداد الكتب المقدّسة في الغرب لعدم نسبتها الى أيّ من الرسل، رغم أننا نجد ذكراً لها في القرن الثاني في روما، إنما الشرق قبلها لأنه اعتقد أنها من الرسائل البولسية ( أوسيبيوس He 6.14,4)  ، وعادت الكنيسة الغربية وقبلت هذه الرسالة في القرن الرابع أو الخامس ظنّاً منها أنها من الرسائل البوليسية.

إنما النسبة الرسولية لم تكن دوماً معياراً لا يقبل الجدل، فالإنجيل المنسوب الى بطرس كما أسلفنا ، رُفض فوراً في الغرب رغم نسبته الى كبير الرسل وذلك بسبب محتواه.  فحين يكون المحتوى غير مستقيم الايمان، يُرفض الكتاب رغم نسبته الرسولية المزعومة.

 

- أهمية الجماعة المسيحية الموّجه إليها الكتاب ووضعها:  يلعب وضع الجماعة المُرسل إليها الكتاب دوراً دوراً هاماً في فهم كيفية حفظه وتناقله، فالوضع السياسيّ أو الاجتماعيّ أو وضع الاضطهاد الذي قد تعانيه جماعة ما يؤثر في حفظ أو فقدان الكتاب.  فنحن لا نجد ، على سبيل المثال، أي من الكتب أو الرسائل الموّّجهة الى كنيسة أورشليم، رغم أن كثير من مصادر الاناجيل والأعمال قد تكون خارجة من هذه المنطقة.  والسبب قد يكون الاضطراب الذي سببته الثورة اليهودية في العام 66- 70 ضد الرومان وأدّت الى دمار اوراشليم وتشتت أهلها.

ومن ناحية أخرى يلعب وجود واحدة من الشخصيات المهمة في إحدى المناطق دوراً محورياً في حفظ كتاباته في هذه المنطقة: لذلك نجد ان أسيا الصغرى والجزر اليونانية قد حافظت على رسائل بولس والكتابات اليوحنوية وربما أيضاً لوقا والأعمال لارتباط هؤلاء الرسل بهذه الأمكنة. هذا العامل قد أسهم أيضاً في المحافظة على كتابات أقلّ أهميّة وحجماً مثل رسالة يهوذا والرسالة الى فيلمون، وحافظت انطاكيا على انجيل متى.

- تطابق محتوى الكتب والايمان القويم: يتعلق مصير قبول كتاب ضمن الكتب المقدّسة بتطابقه أو لا مع الايمان الذي قبلته الكنيسة من الرسل الذين عاينوا وشهدوا.  فانجيل بطرس الذي تكلّمنا سابقاً كان قد قُبل في كنيسة رودوس القرب من انطاكية، وحين أتى الأسقف سيرابيون اسقف انطاكيا عام 190 الى هذه المدينة وجد هذا الانجيل لم يكن قد سمع عنه قبلاً وبعد فحصه اتّضح له أنه من نتاج بدعة الدوسيتية التي تنفي انسانية المسيح الحقّة عندها منع الاسقف قراءة هذا الكتاب في الجماعات الكنسية (اوسيبوس HE 6.12-2-6) . كما أن رفض ديونيسيوس أسقف الاسكندرية لقانونيّة سفر الرؤيا هو وجود فكرة ملك المسيح لألف سنة ، وخوفه من أن يُفهَم الكتاب وكأنّه يتكلّم عن الألفيّة المسيحانيّة التي تبنّتها الكثير من البدع.

 

جمع الكتب المقدّسة في كتاب العهد الجديد:

الرسائل: إن الرسائل، وإن كانت الأكثر قدماً، تبقى النوع الأكثر صعوبة للجمع، فالكاتب كان يرسل الرسالة ومن غير المؤكّد أنّه كان يحتفظ لجماعته بنسخة منها، فكيف جُمعت إذا هذه الرسائل في مجموعة واحدة؟  الحلّ الأسهل هو أن الكاتب، أو من هم حوله، كانوا يجمعون الرسائل معاً لما يعنيه لهم شخص الكاتب كرأس لجماعتهم المحلّية.

الطريقة الثانية هي التبادل بالرسائل بين الجماعات، فالكنيسة التي كانت تصلها رسالة كانت ترسلها الى كنائس أخرى مجاورة، أحياناً بطلب من الكاتب نفسه، كما نرى في كول 4، 16.

مما لا شكّ فيه أن الجماعات الكنسية بدأت تجمع رسائل بولس حين بدأ هذا الرسول يكتسب أهميّة كبيرة في هذه الجماعات، وعلماء الكتاب المقدّس ينسبون عملية الجمع هذه الى المدرسة أو الجماعة البولسية التي تكون خطّت أيضاً الرسائل البولسية الثانوية، أو الى تلاميذ مرافقين لبولس مثل أونسيموس (فيل1، 10) أو لطيمتاوس.

الأناجيل: نحن نملك اليوم بين أيدينا أربعة أناجيل كتبت بين 65- 100، إنّما لماذا أربعة اناجيل.  فكلّ المؤّشرات تدلّ الى أن المنطق الرسولي كان منطق الإنجيل الواحد، فبولس في رسالته يحذّر من إنجيل آخر غير الإنجيل الذي أعلنه هو (غل 1، 8-9)، وكاتب إنجيل مرقس يبتدئ بإعلان هذا الإنجيل كإنجيل يسوع المسيح: بَدءُ إنجيل يسوعَ المسيحِ آبنِ الله، دون الإشارة الى إمكانيّة وجود أناجيل أخرى، ومتّى حين استعمل مرقس في إنجيله، أدخل أيضاً مواداً أخرى، مفترضاً ان القارئ عندها لن يكون محتاجاً لقراءة إنجيلين، فإنجيل مرقس يحتويه متّى.  ولوقا يبتدئ إنجيله مشيراً الى أنّ آخرين كتبوا إناجيل أخرى:"لَمَّا أَن أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا،ما نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها،رَأَيتُ أَنا أَيضاً، وقَد تقَصَّيتُها جَميعاً مِن أُصولِها، أَن أَكتُبَها لَكَ مُرَتَّبَةً يا تاوفيلُسُ المُكرَّم لِتَتَيَقَّنَ صِحَّةَ ما تَلَقَّيتَ مِن تَعليم" (لو  1، 1-4)، فنستنتج أن لوقا يستعمل ما كُتب سابقاً، مدقّقاً فيه ومرتّباً إياه، ليصبح بالنسبة للقارئ الإنجيل الدقيق.  في الواقع قبل العام 150 لا نجد أي إشارة الى وجود أربعة أناجيل تستعمل معاً في كنيسة محلّية ما.

إستعمال إنجيل واحد كان يهدف الى التأكّد من صحّة البشارة التي تتلقّاها جماعة ما، إنّما لهذه الحصريّة الإنجيليّة أخطار أخرى، منها إمكانيّة إستعمال "الإنجيل الوحيد" لتبرير معتقدات أو طرق عيش غير وفيّة لما أراد المسيح إعلانه.  فاستعمال إنجيل متّى حصرياً في الجماعات من أصل يهودي كان خياراً تفضيلياً لورود: "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل. الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن يَزولَ حَرْفٌ أَو نُقَطَةٌ مِنَ الشَّريعَة حَتَّى يَتِمَّ كُلُّ شَيء، أَو تزولَ السَّماءُ والأَرض (مت 5، 17-18)، وبالتالي كانوا يستعملونها في جدالهم ضدّ المسيحيّين من أصل وثني، المستندين الى إنجيل آخر لتبرير عدم إتّباعهم للشريعة اليهوديّة.  وما هو أخطر هو أن البدع المختلفة كان يمكنها الإرتكاز على إنجيل ما دون آخر، لأن الإنجيل المستعمل يبرّر معتقدها الخاطئ كما حصل مع الغنوصيّين الذي حوّروا إنجيل يوحنّا.  لذلك بدأت الكنيسة تعتمد الأناجيل الأربعة.  في هذه الفترة فتّش البعض عن حلول وسط للتوفيق بين منطق الإنجيل الواحد والأناجيل المتعدّدة، فكان دياتسّرون تاتيانوس الذي جمع في نص واحد الإناجيل الأربعة بشكل متواصل، مكمّلاً واحدها بالآخر.  هذا الإنجيل كان شديد الرواج في الكنائس السريانيّة.

وبسبب تعليم مرقيون الهرطوقيّ، أخذت الكنيسة خطوة أخرى في تكوين قانون العهد الجديد، فمرقيون (100-160) مسيحيّ الثقافة ولاهوتي لامع جاء الى روما عام 140 معلّماً أن الخالق الّذي يتكلّم عنه العهد القديم هو ليس الله، إنّما "إله هذا العالم" (2قور 4،4)، وهو ليس الله المحبّ البشر وأب يسوع المسيح.  هذه النظرية كانت نتاج فكرة التحّلي عن الشريعة، ومن أخطار الإعتماد على كتاب واحد.  رفض مرقيون العهد القديم، واختار إنجيلاً واحداً هو إنجيل لوقا (دون الفصلين 1 و3) وعشر رسائل بولسية متخلّياً عن الرسائل الراعويّة.  عندها قرّرت الكنيسة إعتماد، الى جانب العهد القديم، الأناجيل الأربعة وثلاث عشرة رسالة من رسائل بولس وكتاب الأعمال كجزء مكمّل لإنجيل لوقا، كما اعتمدت 1 بط و1يو.  في نهاية القرن الثاني كان العهد الجديد مكوّناً من 20 كتاباً.

 

المجموعة النهائية:

بين القرنين الثاني والرابع، قُبلت الكتب السبع الباقية وأُدخلت في بعض الكنائس ككتب مقدّسة، وأثرث العلاقة بين الشرق والغرب على اكتمال هذا القانون: فأوريجانوس إنتقل الى روما وتعرّف على الكنيسة التي عرفت بطرس وبولس، أمبروسيوس وأغسطينس تعرّفوا على أعمال أوريجانوس وترجموها، وبواسطته دخلوا في ثقافة كنيسته الكتابية؛ أيرونيمس عاش ردحاً طويلاً في فلسطين وسوريا، وبالتالي فإن الكنيسة الجامعة قد عملت بشكل تلقائي على تكوين ما نسمّيه قانون العهد الجديد.