الكتاب المقدّس | العهد القديم
١٣‏/١٠‏/٢٠١٦ سفر التكوين | الأب بيار نجم ر.م.م

سفر التكوين

 تعلّم الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ "الله، لمّا أراد بعظيم حنانه أن يخلّص الجنس البشريّ كلّه، وأن يهيّئ ما يلزم لذلك، ٱختار، بتدبير منه، شعباً يكون خاصّته، إستودعه وعوده الخلاصيّة. فأبرم عهداً مع إبراهيم (تك 15، 18)، ثم أبرم عهداً مع الشعب الإسرائيليّ على يد موسى (خر 24، 8).  وبأقواله وأفعاله كشف ذاته لهذا الشعب المختار، فأعلن أنّه وحده هو الإله الحقّ، وهو الإله الحيّ".[1]

 

  ماذا نفهم بهذا؟

1-   إنّ العهد القديم هو عطيّة من رحمة الله لنا، لخلاص الإنسان.  هدف الله من إعطائه العهد القديم هو خلاص الإنسان، وليس فقط خلاص الشعب العبرانيّ، شعب الله المختار.  بما أنّ الإنسان لم يكن قادراً على فهم الحقيقة بكاملها، ودفعة واحدة، كان لا بدّ أن يتجسّد المسيح الكلمة ليعلن لنا حقيقة الله.  هذا التجسّد حضّر اللهُ له عبر التاريخ، من خلال العقل البشريّ كما قلنا في الدرس السابق، ومن خلال العهد القديم، ليس ككتب مكتوبة فقط، إنمّا من خلال دعوته لأشخاص سوف يصبحون آباء لنا في الإيمان، قام الله بعهد معهم ليعلن الخلاص للكون أجمع.

 

2-   إختار الله، بتدبير منه، شعباً يكون خاصّته، إستودعه وعوده الخلاصيّة: إختيار شعب معيّن ليس بسبب أفضليّة هذا الشعب على غيره، وليس بسبب قوته العقليّة أو العسكريّة أو الاقتصاديّة، بل كان الاختيار بتدبير من حكمة الله.  لذلك ٱختار الشعب الأضعف في الشرق الأوسط القديم.  لقد كان بمقدور الله أن يختار المصريّين أو الأشوريّين أو الكلدان أو الفرس أو اليونان، فكلّها كانت شعوب أقوى من الشعب الإسرائيليّ من ناحية التقدّم والثقافة والاقتصاد والقوّة العسكريّة.  في العهد الجديد نرى أيضاً يسوع يختار تلاميذه من بين الأضعف في مجتمعهم، لترى الشعوب كلّها قوة الله العاملة في أدوات ضعيفة.

 

هذا الإختيار ليس تفضيليّ، فالشعب الذي ٱختاره الله، قد اختاره ليحمل إرادته إلى العالم كلّه.  لقد اختاره الله ليخدم الإنسانيّة كلّها ويعلن لها إرادته بأن يخلّص الإنسان.

كما أنّ هذا الاختيار ليس حصريّاً، فالله لا يريد أن يكون شعب الله المختار هو وحده المخلَّص، بل أراد الله أن يخلّص كلّ الكون من خلال إعطاء الحقيقة لهذا الشعب ليعلنها.  لذلك يقول المجمع الفاتيكانيّ الثاني: "إستودعه وعوده الخلاصيّة"، هي وديعة أعطاه إيّاها أمانة ليحافظ عليها ويعلنها إلى كلّ البشر.  إنّ خطيئة شعب الله المختار هي دوماً الكبرياء: ظنّ أنّه أفضل من غيره، وأقدس من الشعوب الأخرى، فتعالى عنهم بدل نقل إرادة الله لهم.

 

3-   فأبرم اللهُ عهداً مع إبراهيم (تك 15، 18): سوف نرى لاحقاً معنى هذه الدعوة، إنّما علينا أن نفهم أنّ دعوة إبراهيم كانت بداية تأسيس ما سوف يُدعى شعب الله المختار، فإبراهيم أصبح لكلّ إسرائيليّ والد في الإيمان، ونحن كمسيحييّن ننظر الى إبراهيم كالشخص الذي قَبِل إرادة الله بأن يدعو جميع الشعوب إلى الإيمان، وهكذا "نسله لا يُحصى له عدّاً" (تك 16، 10) "أجعلك أمّة كبيرة، واسمك يصبح عظيماً" (تك 12، 12)، هذه الأمّة ليست أمّة إسرائيل أو شعب الله المختار، إنّما تتكوّن من كلّ مؤمن بالله، والعامل بمشيئته.  لقد ٱختار الله لهذه الغاية آراميّاً غريباً، من مدينة أور الكلدانيّين، دعاه لكي يترك كلّ شيء ويتبعه (تك 12، 1)، "لتتبارك بك كلّ شعوب الأرض" (تك 12، 3).

ثم أبرم عهداً مع الشعب الإسرائيليّ على يد موسى (خر 24، 8): أخرج الله الشعب من مصر أرض العبوديّة إلى أرض الميعاد، الأرض التي أعطاها الله لإبراهيم. ثم كلّمهم الله من خلال موسى، فقالوا: كلّ ما يقوله الله سوف نفعله (خر 24، 7)؛ أعطى اللهُ الشعبَ الوصايا (خر 31، 8)، وأقاموا الفصح الأوّل.  هي دعوتهم ليعودوا إلى العهد الأوّل، أن يكونوا شعب الله المختار ويعلنوا حقيقة الله لكلّ الشعوب.

 

4-   وبأقواله وأفعاله كشف ذاته لهذا الشعب المختار، فأعلن أنّه وحده هو "الإله الحقّ، وهو الإله الحيّ":  هدف العهد القديم هو أن يعرف الإنسان حقيقة الله: من هو الله، وما هو الله.

- من هو الله: هو الإله الحقّ.  الشعوب القديمة كانت تعبد آلهة عدّة: عناصر الطبيعة، الأوثان، بعل وعشتاروت، راع إله الشّمس... "من خلال أقواله وأعماله" التي نجدها في العهد القديم، كشف الله ذاته لشعبه المختار، ومن خلاله لكلّ الأمم، أنّه هو وحده الإله الحقيقيّ، وله وحده تجوز وتنبغي العبادة.  سوف نرى أنّ خطيئة إسرائيل الكبيرة سوف تكون دائماً "الزنى"، أي خيانة الله (إله العهد الذي خلق الإنسان من تراب، ودعا إبراهيم وجعله أمّة عظيمة، ودعا موسى وأخرج الشعب بواسطته من أرض العبوديّة) وعبادة آلهة الشّعوب الأخرى.

 

- ما هو الله: هو الإله الحيّ.  هو ليس عنصراً ماديّاً (الشّمس أو المحيط أو النار أو الماء...)، هو ليس قوّة طبيعيّة (العاصفة، البركان، الطوفان...)، وهو ليس مادّة جامدة (الأصنام والتماثيل...)، بل هو إله حيّ، دخل في علاقة مع الشعب، ومن خلاله مع الكون كلّه.  هو إله يدخل في علاقة حبّ ووفاء، ويطلب من شعبه الحبّ والوفاء.  هو ليس إلهاً بعيداً، بل هو الحالّ في وسط جماعته.

 

هل العهد القديم هو كتاب المسيحيّين أيضاً؟ ولماذا؟

إنّ كلّ ما دبّره الله في العهد القديم يستجيب لقصدٍ إلهيّ يدور حول مجيء المسيح، مخلّص العالم، وحول ملكوته المسيحانيّ.  فالعهد القديم تهيئة له، وتنبّؤ عنه:

-  لو 24،44 ثُمَّ قالَ لَهُم عِندَما كُنتُ بَعدُ مَعَكُم قُلتُ لكُم لا بُدَّ أنْ يتِمَّ لي كُلُّ ما جاءَ عنِّي في شريعةِ موسى وكُتُبِ الأنبـياءِ والمزاميرِ.

-  يو 5، 39 تَفحَصونَ الكُتُبَ المُقدَّسَةَ، حاسبـينَ أنَّ لكُم فيها الحياةَ الأبديَّةَ، هيَ تَشهَدُ لي.

-  1بط 1، 10 عَنْ هذا الخَلاصِ فَتَّشَ الأنبـياءُ وبَحَثوا، فأنبَأُوا بالنِّعمَةِ التي نِلتموها.

 

وكتُبُ العهد القديم تُفهم كلّ إنسان ما هي حقيقة الله، وما هي حقيقة الإنسان... لذلك فالمسيحيون ملتزمون أن يتقبّلوها بتقوى وخشوع، لأنّها تنضح فكراً إلهيّاً حيّاً، ولأنّها تحتوي في داخلها على تعاليم سامية عن جوهر الله، وعلى نصائح حكميّة[2] تُلائم الحياة، وعلى كنوزٍِ رائعةٍ من الصلوات.  وفيها أخيراً يكمن سرّ خلاصنا.

لذلك هو دون شكّ كتاب المسيحيّين أيضاً، وهم "ملتزمون بأن يقبلوه"، لأنّه " يدور حول مجيء المسيح".  لولا سرّ المسيح الموجود فيه، لما كان للعهد القديم قيمةً بالنسبة لنا. قيمته تكمن في أنّ الله حضّر من خلاله مجيء المسيح ليخلّصنا.  قد لا يكون هذا السرّ واضحاً دوماً، لذلك علينا أن نقرأ ونفهم الكتاب المقدّس، على ضوء تجسّد المسيح الفادي. فمنذ التكوين، وبعد خطيئة الإنسان، وعد الله الإنسان الخاطئ بالمخلّص الذي يأتي من حوّاء: "بَينَكِ وبَينَ المَرأةِ أُقيمُ عَداوةً وبَينَ نسلِكِ ونسلِها فهوَ يتَرقَّبُ مِنكِ الرّأسَ‌ وأنتِ تـتَرقَّبـينَ مِنْه العَقِبَ "  (تك 3، 15).

 

أقسام العهد القديم:

ينقسم العهد القديم إلى ثلاثة أجزاء كبرى: الكتب التاريخيّة (الكتب الخمسة)، الأنبياء والكتب الحكميّة.

 

1-  التوراة أو الكتب الخمسة (Pentateuque): التكوين، الخروج، اللاّويين، العدد وتثنية الإشتراع.

2-  الكتب التاريخيّة: يشوع بن نون، القضاة، راعوت، 1صموئيل، 2صموئيل، 1ملوك، 2ملوك، 1 أخبار، 2 أخبار، عزرا، نحميا، استير، طوبيت، يهوديت، 1 مكابيّين، 2 مكابيّين.

3-  الأنبياء: إشعيا، إرميا، مراثي إرميا، باروخ، حزقيال، دانيال، هوشع، يوئيل، عاموص، عبديا، يونان، ميخا، ناحوم، حبّقوق، صفنيا، حجّاي، زكريّا، ملاخي.

4-  الكتب الحكميّة: أيّوب، المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الأناشيد، الحكمة، إبن سيراخ.

 

أ‌- سفر التكوين:

هو الكتاب الأوّل في العهد القديم، ومقدّمة الكتاب المقدّس.  فيه تبدأ قصة شعب الله المختار من خلال العودة إلى الإنسان الأوّل.  إنّه تدبير الله الخلاصيّ الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله، ليعطيه البنوّة الإلهيّة.

إن الإبتداء بقصّة خلق الإنسان يربط شعب الله المختار بالإنسانيّة: الإنسان، كلّ إنسان، هو جزء من شعب الله المختار، لأنّه مخلوق على صورة الله ومثاله. 

ينقسم سفر التكوين الى قسمين كبيرين:

1-  قصة خلق الإنسان.

2-  قصّة آباء العهد القديم.

 

1-  قصّة خلق الإنسان وعلاقة الإنسان بالله (1، 1- 11، 26):

يتكلّم القسم الأوّل من سفر التكوين عن قصة الإنسان من الخلق ولغاية دعوة إبراهيم، التي تمّت حوالي سنة 1500 ق.م.  نحن نعلم اليوم أنّ عمر الكون يقارب الأربع مليارات سنة، والإنسان قد وُجد على الأرض فقط منذ مليوني سنة.  كاتب سفر التكوين لم يكن يعرف هذه الأشياء كلّها ولم يكن مهتمّاً بالتاريخ كعلم موضوعيّ نفهمه نحن اليوم، إنمّا كانت إرادته كتابة تاريخ الإنسان مع الله، ومن وجهة نظر دينيّة لاهوتيّة أوّلاً (ما هو الإنسان؟ من أين أتى؟ هل العالم والعناصر الطبيعيّة هي آلهة أو مخلوقات؟ ما هو أصل الخطيئة وما هو مصدر الشّر؟...)، ومن ناحية أخرى كان يريد أن يخبر شعب الله المختار عن كيفيّة تأسّس هذا الشعب، وما هو الفرق بينه وبين الشعوب الأخرى، وما هي واجباته تجاه الله وتجاه الشعوب الأخرى: هو ليس تاريخاً علميّاً، إنمّا هو تاريخ إسرائيل الروحيّ واللاهوتيّ.

يبدأ سفر التكوين بقصّة خلق العالم والإنسان (1، 1- 2، 4)، ثم تليها خمسة أقسام قصصيّة أو ملحميّة (ليست بالضرورة تاريخيّة، "هي صحيحة ولكنها ليست دقيقة") تشرح حالة الإنسان الخاطئ، وطبيعة علاقته بالله، وهذه الأقسام كلّها تبدأ بنفس الكلمة في العبرانيّة ´ëºllè tôldôt والتي تعني حرفيّاً: هذه هي مواليد/ هذا هو نسب (راجع متى1،1 هذا نسَبُ يسوعَ المسيحِ).

‌أ-   آدم وحوّاء في الفردوس، خطيئة آدم وحوّاء وجريمة ابنهما البكر قايين قاتل أخيه.  هذه القصّة تبدأ: هكذا كانَت مواليد السماواتِ والأرضِ (تك 2، 4).

‌ب-   سلالة آدم: آباء ما قبل الطوفان، خطيئة البشريّة العامّة وقرار الله بتدمير العالم.  هذه القصّة تبدأ: هذه مواليد آدمَ يومَ خلَقَ اللهُ الإنسانَ (تك 5، 1).

‌ج-  نوح والطوفان، وهذه القصّة تبدأ أيضاً: هذه هي مواليد (قصّة) نوح (6، 9).

‌د-  سلالة أبناء نوح وانتشار البشر على الأرض كلّها وتعدّد الألسنة، وهذه القصة تبدأ: وهؤُلاءِ مَواليدُ بَني نُوحٍ، سامٌ وحامٌ ويافَثُ (10، 1).

‌ه-  مواليد سام لغاية طارح والد إبراهيم، وهذه القصّة تبدأ أيضاً: هؤلاءِ مَواليدُ سامٍ (11، 10).

 

هذه كانت في الأصل مجموعة من الروايات المستقلّة التي توارثها اليهود شفهيّاً، وأحياناً تأثّروا بروايات شعوب أخرى مجاورة.  في وقت من الأوقات جمعها كاتب من كتّاب العهد القديم، ونسّقها في رواية موحّدة، ليضع فيها تعليمه للشّعب، وهكذا بدل أن تبقى هذه الروايات قصصاً شعبيّة وثنيّة، أصبحت نصوصاً تحمل في داخلها التعليم حول حقيقة الله.

 

ماذا أراد هذا الكاتب أن يقول للشّعب من خلال هذه الروايات؟

-  في القرن العاشر قبل الميلاد، أصبح شعب الله أمّة كبيرة، مملكة تدخل في صراع مع الممالك الأخرى ومع الشعوب المجاورة، وكان عليهم أن يتواجهوا مع معتقدات الشعوب الأخرى وآلهتها، وهنا كان الخطر في أن يقع الشعب مجدّداً في عبادة الأصنام.  هكذا كان من الضروريّ أن يشرح سفر التكوين لماذا على الشعب أن يحافظ على إيمانه بالله "يهوه"، وكيف أنّ إيمانه هو الإيمان الحقيقيّ لأنّه أخذه من الله مباشرة من خلال العهود التي أقامها الله مع الإنسان من خلال أشخاص محدّدين: الوعد لآدم، الوعد لقايين، الوعد لنوح، والعهد مع إبراهيم...  نحن لا نفهم اليوم هذا الخطر، لأنّنا لا نقتنع بأنّ عبادة الأصنام يمكن أن تكون منطقيّة، وهذا بسبب الكتاب المقدّس عندنا، والتعليم الدينيّ، وتقدّم العلم، فلا يمكن أن نؤمن أنّ العاصفة أو البركان يمكن أن يكونا آلهة لأنّنا نعلم السبب العلميّ لهذه القوى الطبيعيّة.  هذا التفكير لم يكن ممكناً منذ أربعة آلاف سنة، فالعلم لم يكن قد تطوّر، والإنسان كان يبحث دوماً عن مصدر حماية له، حتّى ولو كانت آلهة غريبة.  لهذا جمع الكاتب هذه الروايات، ووضع فيها التعليم الصحيح:  يهوه، الإله الأوحد والحقيقيّ، قد دخل في علاقة شخصيّة مع الإنسان، دخل في عهد معه، وجعله شعباً مختاراً، ليعلن هذه الحقيقة للشّعوب الأخرى.

-  وفاء الله الدائم لعهده، رغم خيانة الإنسان له: الخيانة الجماعيّة من خلال خيانة الشعب كلّه (آدم وحوّاء: البشريّة كلّها (تك 3)، البشريّة كلّها التي صنعت الشرّ قبل الطوفان (تك 6-9)، كبرياء بابل (تك 11)، وإمّا الخطيئة الشخصيّة: قايين يقتل هابيل (تك 4)... هذه القصص كلّها تعكس حقيقة عاشها شعب الله عندما كان في مرحلة البداوة في الصحراء وحين صار مملكة أيضاً:

‌أ.  في مرحلة البداوة:  عبادة إسرائيل لعجل الذهب (خر 32)،

‌ب.  في مرحلة ٱحتلال أرض الميعاد: مخالفة الشعب لوصايا الله (قض 2،1-3: وصَعِدَ ملاكُ الرّبِّ مِنَ الجِلجالِ‌ إلى بوكيمَ‌ وقالَ لِبَني إِسرائيلَ أخرَجتُكُم مِنْ مِصْرَ وأدخَلتُكُمُ الأرضَ الّتي أقسَمْتُ علَيها لآبائِكُم، وقُلتُ إنِّي لا أنقُضُ عَهدي معَكُم إلى الأبدِ شَرطَ أنْ لا تُعاهِدوا أهلَ هذِهِ الأرضِ وأنْ تَهدِموا مذابِـحَهُم‌، فما سَمِعتُم لِقولي. فماذا فعَلتُم لِذلِكَ قُلتُ أيضاً إنِّي لا أطرُدُهُم مِنْ أمامِكُم، بل يكونونَ شَوكةً في خَواصِرِكُم وتكونُ آلِهَتُهُم لكُم فَخًّا).

‌ج.  في مرحلة المملكة: خطيئة داود (2 صم 11) وخطايا سليمان (1 ملوك 11).

 

سفر التكوين كُتبَ في عهد المَلَكيّة، وبالتالي فإنّ هدفه كان تصحيح الحاضر على ضوء الماضي، دعوة إسرائيل إلى التوبة والوفاء عن طريق تذكيره بقصّته مع الله منذ البدء.

 

هذه الروايات كلّها نجدها مصمّمة من أربع نقاط:

1-  الله يدخل في علاقة حبّ مع شعبه، ويحذّر من الخيانة.

2-   الإنسان يخون الله.

3-   الله يعاقب شعبه.

4-   الإنسان/ الشعب يخطأ والله يرحمه ويعطيه مع العقاب (أو بعده) وعداً بالخلاص.

إنمّا هذه الروايات مرتبطة كلّها ببعضها من خلال الإنسان الذي يخطأ ويخون عهد الله مجدّداً:

 

خلق الله الإنسان- آدم وحوّاء خالفا الوصيّة- الله عاقب الخطأة- الله أعطى وعداً بالخلاص من خلال نسل آدم وحوّاء (علّق الله أهميّة على أبناء آدم وحوّاء)- نسل آدم يخون رغبة الله حين يقتل قايين أخاه- الله يعاقبه- قايين يخاف- الله يعده بالخلاص- البشريّة، أبناء قاييين، تكثر خطاياها (قصّة العمالقة)- الله يعاقب فيرسل الطوفان- الإنسان يخاف الله- الله يعطي الوعد من خلال إبقاء نوح وعلامة قوس الغمام- الإنسان يتكبّر ويريد الارتفاع أكثر من الله- الله يعاقب أهل بابل إنما يعطي الوعد مجدّداً من خلال إبراهيم.

 

هذه السلسلة كلّها كانت متوجّهة لشعب الله حين أصبح أمّة كبيرة، ليذكّره، عند ٱقتراف الخطايا وخيانة الربّ من خلال عبادة آلهة أخرى، بعلاقته مع إله الموعد.

 

روايات القسم الأوّل من سفر التكوين تخبر عن قصة الإنسان اليائسة قبل تدخّل الله في تاريخ الشعب من خلال العهد مع إبراهيم.  الفصول الإحدى عشر الأولى التي تخبر عن قصّة الله مع الإنسانيّة تحضّر لقصّة الله مع إسرائيل ومن خلاله مع الإنسانيّة كلّها.

 

نتائج الخطيئة: تك 1- 11  هي روايات مليئة بخطيئة الإنسانية والتي أدّت إلى إبادتها تقريباً من خلال الطوفان.

-  أدّت أيضاً الى تشتّت الإنسان على وجه الأرض، ومن هنا كانت الحروب والصراعات بين القبائل والشعوب.  الحرب هي إذاً نتيجة الخطيئة.

-  أدّت الى الصراع بين الرجل وٱمرأته، فالرجل ألقى اللوم على المرأة، وهذه ليست علامة حبّ، والصراع بين الرجل والمرأة ليس كلّ شيء، بل قد ٱبتعدا عن الله أيضاً.

-  أدّت إلى الحرب بين الإخوة المتمثّلة بجريمة قايين.  وهذه الجريمة كانت بداية حروب همجيّة بين أبناء قايين.

- أدّت إلى السعي فقط الى اللّذة وليس الى الحبّ الطبيعيّ، وهذا ما ترمز إليه خطيئة النساء اللواتي تزاوجن مع "أبناء الآلهة"، ونتيجة هذا كانت العودة إلى الخواء والخلاء الأصليّين، أي تقريباً العودة إلى ما قبل خلق العالم.  العالم إذاً لم يعد حسناً كما رآه الله في الأصل.

- نرى أنّ الخطيئة لم تتغلّب على الله، فالله رغم كلّ هذا ٱستجاب لصرخة الإنسان النادم، وأبقى نوحاً.  نوح أصبح مثل آدم جديد، أبًا لخليقة جديدة، أُوكلت اليه إعادة الإنسان الى علاقته الحسنة بالله.

- إنمّا نوح أخطأ أيضاً بالإسراف بالخمر، وابنه حام، أب القبائل، أهانه. لذلك لعنه نوح وجعله عبداً لسام.  حام هو أب الشعوب التي كانت في حروب دائمة مع إسرائيل: كنعان، وأشور ومصر.  إنّ الحرب التي دامت حتى زوال إسرائيل كان سببها الخطيئة.  سفر التكوين يريد أن يقول إنّ الحرب كانت بين الإخوة، لأنّ الشعوب المتحاربة كانت كلّها من سلالة نوح، إنمّا الخطيئة أفسدت من جديد العلاقة الأخويّة، وحوّلت التعاون بين الشعوب والتعايش المسالم إلى حالة حرب مستمرّة.

-  الكبرياء كان خطيئة الإنسان الأوّل، آدم وحوّاء، إنمّا الإنسان لم يتعلّم بل أراد أن يصبح ليس فقط مساوياً لله، كما أرادت حوّاء، إنمّا أعلى من الله، من خلال بناء برج بابل العالي: لنبنِ مدينة يخترق برجها السماء (تك 11، 4).  لهذا بلبل الله ألسنتهم، أي لم يعودوا متّحدين، بل منقسمين، يتكلّمون لغات مختلفة ولكلّ منهم منطقه.  هي أيضاً خطيئة الإنسان.

 

 2-  قصّة آباء العهد القديم:

نعود الى هذا القسم فنتكلّم عنه مفصّلاً عند انتهائنا من القسم الأوّل.

 

 

[1]  المجمع الفاتيكاني الثاني، كلمة الله Dei Verbum ، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، 14.

[2] المجمع الفاتيكاني الثاني، كلمة الله Dei Verbum ، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، 15.