الكتاب المقدّس | العهد القديم
١٣‏/١٠‏/٢٠١٦ سفر التكوين | الأب بيار نجم ر.م.م

قصّتا الخلق

نجد في سفر التكوين قصّتين عن خلق الله للكون والإنسان:

-تك 1، 1- 2، 4

-تك 2، 4- 25

 

في القصّة الأولى نجد الخلق يتمّ في ستّة أيّام، ونجدها منسّقة على مرحلتين:

 

اليوم الأوّل: خلق النور

اليوم الرابع: خلق النيّرات (الشمس، القمر، النجوم...)

اليوم الثاني: خلق السماوات (الرقيع) و فصل المياه

اليوم الخامس: خلق مخلوقات السماء والبحر.

اليوم الثالث: خلق الأرض والنبات

اليوم السادس: خلق الحياة على الأرض، النبات والإنسان.

 

 إذًا نلاحظ أنّ الله قد خلق الكون الماديّ في الأيّام الثلاثة الأولى، وفصل الأشياء عن بعضها ورتّبها، وفي الثلاثة الأخيرة، أسكن كلّ مخلوق مكانه المعدّ له.

-               في هذه القصّة نرى أنّ الإنسان قد خُلِق في النهاية: كان الله يخلق كلّ شيء إعداداً لخلق الإنسان، وبالتالي فإنّ كلّ شيء قد خلقه الله ليضعه في خدمة الإنسان، وسلّط الإنسان على المخلوقات.

-               خُلق الإنسان على صورة الله ومثاله، ليتسلّط على الخليقة، أي أنّ الله منذ البدء أراد إشراك الإنسان في حياته الإلهيّة.  الفرق بين الإنسان وكلّ المخلوقات الأخرى هو أنّه على صورة الخالق ومثاله، مدعوّ إلى الاشتراك في حياة الله الإلهيّة.

 

إنّ وصف خلق الكون ليس وصفاً علميًّا، لأنّ الكتاب المقدّس ليس كتاب علوم، إنّما هي رواية قد لا تكون دقيقة مئة في المئة، إنمّا هي رواية رمزية تحمل حقيقة إلهيّة:

-               إنّ الله هو خالق كلّ شيء وهو الإله الأوحد.

-               إنّ الله خلق كلّ شيء من العدم، به كان كلّ شيء.

-               الشّر لم يخلقه الله، والله ليس مصدر الشّر، لذلك لا نجد له ذكراً قبل خطيئة الإنسان.

-               المادّة ليست شرّيرة، فكلّ ما خلقه الله قد رآه حسناً.

-               استمرارية الخلق، فالله لم يخلق كلّ شيء في لحظة واحدة، وبهذا يريد الكاتب أن يقول إنّ الخلق مع الله مستمرّ دائماً (وهذا ما سوف يوضحه يوحنّا في إنجيله في ما بعد: "أبي ما يزال يعمل وأنا أيضاً أعمل" يو 5، 17).

 

 

إنّ هذه الرؤية لتكوين العالم قد أخذها الكاتب من الفكر المعاصر له، ومن الحضارات الأخرى.  الإنسان القديم لم يكن يعرف ما نعرفه نحن اليوم حول تكوين الكون، بل كان يظنّ أنّ الكون هو على شكل قرص مسطّح، مؤسّس على أعمدة، تحت الأرض هناك المياه السفليّة مرتبطة بالبحار، وفوق الأرض المياه العلويّة، وأماكن للثلج والمطر والجليد.

في الخلق صنع الله الرقيع أو الجلد، وهو كناية عن حاجز (معدنيّ ربّما، من هنا كلمة رقيع) يفصل بين الأرض والمياه العلويّة، وفي هذا الرقيع توجد بوّابات الغمر العظيم، منها دخلت مياه الطوفان.  تحت الرقيع نجد الشمس والقمر والكواكب، تدور بشكل دائريّ ومستمرّ.

تحت الأرض والبحار نجد "الشيول" (Sheol) أو مثوى الأموات، مكان مظلم يبقى فيه الراقدون بعد الموت بانتظار القيامة، ويمكن الدخول اليه فقط من القبر.

 

 نظرة الى الخلق مأخوذة من الشعوب المجاورة، إنّما لها خصوصيّاتها الموحاة:

 

في أسطورة الخلق البابليّة، المسمّاة أسطورة Enuma Elish (سنة 1700 ق.م.) نجد أن الكون قد وُلد من زواج إله المياه الحلوة أبسو (Apsu) وإلهة المياه المالحة (Tiamat).  حين تزوّجا، من خلال اتّحاد المياه كلّها، وُلدت سائر الآلهة.  إنّما هذه الآلهة بدأت تتصارع، فقرر أبسو وتيامات قتلها، فتمرّدت وقتل الإله إيا (Ea) أبسو.  تيامات أصبحت وحدها، وتيامات رمز المياه المظلمة الهائجة غير المنظّمة.  تحالف سائر الآلهة لقتل أمّهم، وعيّنوا واحداً منهم، مردوك، إلهاً أعلى عليهم ليقتل أمّه.  قتلها مردوك وقسم جسمها الى اثنين:  بنصفها خلق الأرض وبنصفها الآخر السماوات.

 

بعد هذا قرّر مردوك خلق الإنسان ليخدم الآلهة فتبقى مرتاحة، فطلب من Ea رمز الحكمة أن تصمّم الإنسان من دمّ واحد من الآلهة المهزومة، وبعد هذا، نظّم مردوك عمل الآلهة وجعل نظاماً في الكون.

 

نجد نقاط شبه كثيرة بين قصة الخلق هذه وقصّة التكوين الأولى:

 

 تكوين

Enuma Elish

 

الأرض خواء خلاء، والغمر (Tehom) على وجه الأرض

الأرض في خواء غير منظّمة، والغمر (Tiamat) على الأرض

 

في اليوم الأوّل: خُلق النور

خلق النور

 

في اليوم الثاني: خلق الرقيع

خلق الرقيع

 

في اليوم الثالث: خُلقت الأرض اليابسة

خلق الأرض اليابسة

 

في اليوم الرابع: خلق النيّرات في السماء

خلق النيّرات في السماء

 

في اليوم السادس: خلق الإنسان

خلق الإنسان

 

في اليوم السابع: استراح يهوه وقدّس السبت

استراحت الآلهة وأقامت وليمة.

 

 عناصر الوحي في قصّة التكوين الأولى:

-              التكوين يشدّد على وجود إله واحد، لا تعدّد للآلهة.

-               الله يخلق الكون المنظّم لأنّه يحبّ الإنسان، ليس لأنّه يريد أن يرتاح.

-               الكون الذي خلقه الله هو "حسن"، بجوهره خيّر، وليس مبنيّ على صراع الآلهة.

-               الله خلق بكلمته، وبالتالي يشدّد الكاتب على أنّ كلمة الله، التوراة، هي ٱستمرار لعمل الخلق في الإنسان.

-               الإنسان هو قمّة الخلق، وليس مجرّد كائن بين سائر الكائنات، وُجد فقط لأنّ الآلهة لا تريد أن تتعب.

-               على الإنسان مسؤوليّة كبيرة على المخلوقات، فهو مسلّط عليها ليشارك الله في تدبيرها.

-               الإنسان يشارك الله في الخلق من خلال الزواج، ومن هنا الوحي أيضاً بقداسة الزواج.

 

قصّة الخلق الثانية

إنّ الرواية الأولى للخلق تبدأ من خلق الكون والطبيعة كلّها وتنتهي بخلق الإنسان كتتويج لعمليّة الخلق كلّها، بينما نرى أنّ الرواية الثانية تبدأ من خلق الإنسان أوّلاً، ونرى أنّ الطبيعة قد خلقت كلّها لتكون مكاناً يعيش الإنسان فيه ويتسلّط عليه.

الله خلق الإنسان ولم يجد هذا كافياً، فغرس الجنّة وأسكن فيها آدم (2، 8).  نرى أنّ كلّ ما خُلق قد خلقه الله ليكون للإنسان.  الجنّة، والمخلوقات الماديّة والحيوانات لم تكن كلّها كافية لآدم، فخلق الله الإمرأة من لحمه، لئلا يبقى آدم وحيداً.

لا شجَرُ البرِّيَّةِ كان بَعدُ في الأرضِ، ولا عُشْبُ البرِّيَّةِ نَبَتَ بَعدُ. فلا كانَ الرّبُّ الإلهُ أمطرَ على الأرضِ، ولا كانَ إنسانٌ يَفلَحُ الأرضَ.  في هذه الآية تشديد على دور الإنسان في المساهمة في استمراريّة الخلق:  الأرض كانت صحراء، دون نبات لسببين: أوّلاً لأنّ الله لم يكن قد أنزل المطر، وثانياً لأنّ الإنسان لم يكن بعد موجوداً.  "لا شجر الأرض كان موجوداً" yihyeh هو فعل يستعمل للتعبير عن الخروج من حالة العدم إلى حالة الوجود وهو وجود مرتبط بعمل الله الذي يُخرج الشيء من العدم إلى الوجود.  "ولا النبات كان أنبت" (yismah) وهو فعل يدلّ على الصيرورة، ينبت ويكبر وينمو، كلّها تتمّ تدريجيّاً، وهي مرتبطة بوجود الإنسان.  وجود الإنسان إذاً على الأرض لا يشبه وجود الكائنات الأخرى، بل دوره هو المساهمة في إنماء الخليقة: الله خلق الإنسان ليحسّن الطبيعة لا ليدمّرها.

 

 بل كانَ يصعَدُ مِنها ماءٌ يَسقي وجهَ التُرْبَةِ كُلَّه

هذه الآية تُظهر صحّة ما قلنا: عدم وجود النبات سببه ليس عدم وجود الماء، فالمياه تخرج من الأرض، إنما السبب هو عدم وجود الإنسان ليزرعها ويهتمّ بها: دون الإنسان، يريد الكاتب أن يقول، يبقى العالم خالياً غير مكتمل، يبقى في حالة الجفاف والتصحّر.  يقول الكاتب إذاً إنّ دعوة الإنسان هي المشاركة في عمل إكمال الخلق والمحافظة عليه.  وغاية الله من خلق كلّ شيء هي أن لا يبقى الإنسان وحيداً.

 

 وجبَلَ الرّبُّ الإلهُ آدَمَ تُراباً مِنَ الأرضِ ونفَخَ في أنْفِه نَسَمَةَ حياةٍ. فصارَ آدمُ نفْساً حيَّةً

 

هذه الآية هي محوريّة لكي نفهم حقيقة معنى هذا النصّ ونصّ الخطيئة الأولى ومن بعدها كلّ أحداث الكتاب المقدّس. 

جَبَلَ هو فعل يُستعمل للحِرَفيّ العامل في صناعة الفخّار (راجع إرميا 18، 2)، وهو فعل يدلّ على إعطاء الخلق لما هو ماديّ: صوّر الله الحيوانات (2، 19) واللِوِيتان – الوحش المائي (مز 104، 26) والأرض اليابسة (مز 95، 5) والجبال (عاموص 4، 13).  بهذه العبارة نرى أنّ الإنسان، على مثال سائر المخلوقات، قد خُلِق من التراب وصوّره الله كما صوّر المخلوقات كلّها.  على النطاق الماديّ لا فرق بينه وبين المخلوقات الأخرى.

 

ونفَخَ في أنْفِه نَسَمَةَ حياةٍ هذا التفصيل هو بغاية الأهمّيّة، فهذا هو الأمر الّذي يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات: إن كان يشترك مع الحيوانات والطبيعة بنفس المادة التي صُنع منها، فهو يشترك مع الله بالنفَس الذي أخذه منه، هو وحده دون سائر المخلوقات.

 

كاتب العهد القديم رأى أنّ مصدر الإنسان الماديّ هو التراب (تماماً مثل ملحمة جلجامش حيث نجد أرورو الإله يخلق إنكيدو من التراب، والإله المصريّ خنوم يصنع الإنسان من الوحل، وبروميتيوس الإله اليونانيّ يصنع الإنسان من التراب والماء).[1]  لا غرو أنّ كلّ الحضارات قد رأت نهاية الإنسان، ورأت أيضاً أنّه يتحوّل إلى تراب بعد الموت، لذلك كانت الفكرة عند كلّ الحضارات أنّ الإنسان مخلوق ترابيّ.

إنمّا الكتاب المقدّس لا ينهي الوجود الإنسانيّ عند حدود التراب والمادّة، فالإنسان، بعكس المخلوقات كلّها، قد نال النفَس من الله نفسه.  النفخ في الأنف هو إعطاء الحياة والاشتراك في الحياة الإلهيّة.  الإنسان إذاً هو أعلى من كلّ الكائنات الأخرى لأنّه وحده نال نفَساً من الله.  هو كائن وسيط بين الألوهة والإنسانيّة، ماديّ في جسده وإلهيّ في النَفَس الذي ناله من الله.

من الملفت للانتباه أنّ بعض عناصر هذه القصّة موجود في روايات الشعوب الأخرى: التقاليد السومريّة تقول إنّ الفردوس موجود في جزيرة "ديلمون" على رأس الخليج الفارسي وفيه الكثير من المياه الحلوة التي تخرج من الأرض.[2]  إن الشعوب القبليّة، البدو الذين يعتمدون على رعاية الماشية، أو حتّى القبائل التي تعتمد على الزراعة، تحتاج إلى المياه كعنصر أساسيّ، دونه تموت القطعان وتيبس الحقول، وبالتالي تصبح القبيلة كلّها معرّضة للموت.  من الطبيعيّ إذاً أن تصف هذه القبائل الجنّة كمكان لا تجفّ فيه المياه.

 

أمّا بالنسبة لآدم، فهذه القصّة تقول إنّ الله قد جبله من طين الأرض، وهذا أيضاً نجده عند الشعوب الأخرى: في ديانات ما بين النهرين كان ٱسم الإنسان الأوّل "أدابا" الخارج من الأرض، دعته الآلهة إلى السماء وسأله الإله "أنو" أن يأكل من طعام الحياة المخصّص للآلهة، فرفض أدابا لأنّ الإله "إيا" قال له ألاّ يقبل لأنّ الآلهة قد تخدعه.[3]  طبعاً في هذا القصّة الوضع يختلف، فالإنسان أطاع الإله، بينما في التكوين فآدم عصي إرادة الخالق، وأيضاً في هذه الرواية نرى أدابا يرفض خبز الحياة الذي يجعله إلهاً، بينما في التكوين نجد آدم وحوّاء يسعيان إلى الطعام.  في الأساطير الغريبة كانت الفكرة أنّ الآلهة قد تحتال على الإنسان، وبالتالي فإنّ الإنسان لم يأكل الطعام الإلهي لأنّه كان خائفاً من العقاب، بينما تقول رواية الكتاب المقدّس إنّ الله قد حضّر كلّ شيء لسعادة الإنسان ولحمايته "لكي لا يموت"، ولكنّ الإنسان بكبريائه أراد أن يعصي وصيّة الله وأن يصبح مثله.  علاقته مع الله قبل الخطيئة لم تكن مبنيّة على الخوف، بل على حالة الصداقة والبنوّة، فالله كان يتمشّى معهما في الفردوس يقول سفر التكوين.

 

وغرَسَ الرّبُّ الإلهُ جَنَّةً في عَدْنٍ شَرقاً، وأسكنَ هُناكَ آدمَ الذي جبَلَهُ.9وأنبتَ الرّبُّ الإلهُ مِنَ الأرضِ كُلَّ شجَرَةٍ حسَنَةِ المَنظَرِ، طيِّبةِ المأكَلِ، وكانَت شجَرةُ الحياةِ‌ وشجَرةُ معرِفَةِ الخيرِ والشَّرِّ في وسَطِ الجَنَّةِ

 

إنّ الجنّة قد خُلقت لتكون مُلكاً للإنسان، مكاناً يعيش فيه، يحمي الإنسان، وهذا الإخير يحافظ عليه.  الحديقة بالنسبة للشعوب القديمة هي المكان الأجمل حيث يمكن للإنسان أن يعيش، والصحراء هي مكان خطر الموت.

الشجرة في الكتاب المقدّس هي رمز الحكمة (أمثال 3، 18)، وثمر القداسة (أمثال 11، 30) ورمز الرغبة المُتمّمة (أمثال 13، 12).  الشجرة هي رمز إعطاء كمال الحياة وملئها لمن يأكل منها.  لأنّ الشجرة تبقى خضراء، أصبحت رمزاً للحياة الإلهيّة (مز 1، 3؛ إر 17، 8).

 

وكانَت شجَرةُ الحياةِ‌ وشجَرةُ معرِفَةِ الخيرِ والشَّرِّ في وسَطِ الجَنَّةِ.

 

إنّ شجرة الحياة هي رمز للحياة الأبديّة، الإنسان كان غير معرّض للموت، أو على الأقل فإنّ معنى الموت لم يكن مثل موت ما بعد الخطيئة، بسبب شجرة الحياة كان الموت مجرّد ٱنتقال دون خوف أو ألم.

 

أمّا معرفة الخير والشرّ فهي ميزة الله وحده (تعال نأكل فنصبح مثله، عارفين الخير والشرّ).

 

الشرّ لم يكن قد دخل العالم قبل الخطيئة، فكيف يعرف الإنسان الشرّ إن لم يكن موجوداً؟ الأكل من شجرة الخير والشرّ يعني ٱقتراف الشرّ وعصيان الله، وٱقتراف الشرّ سببه الرغبة في الانفصال عن الله كمصدر وجود آدم وحوّاء لأنّهما رغبا في أن يصبحا مثل الله، لذلك حذّر الله آدم: موتاً تموت، ليس لأنّ الله يريد قتله، بل لأنّ الأكل من هذه الشجرة يعني ترك الله والانفصال عنه، والله هو مصدر وجود الإنسان، وحين يترك الإنسان مصدر وجوده من الطبيعيّ أن يموت.

 

كان باستطاعة الإنسان أن يأكل من شجرة الحياة، أي أن ينال الحياة الدائمة.  الخلود لا يعني الألوهة الشخصيّة، فالإنسان لا يصبح خالداً بقواه الشخصيّة، بل من خلال الله الذي أعطاه الشجرة.  إنّما الأكل من شجرة المعرفة يعني ٱكتساب هذه المعرفة بالقوّة الذاتيّة لا من خلال الله، وهنا الخطيئة.

 

 وقالَ الرّبُّ الإلهُ لا يَحسُنُ أنْ يكونَ آدمُ وحدَهُ، فأَصنعُ لَه مَثيلاً يُعينُه.19فجَبلَ الرّبُّ الإلهُ مِنَ الأرضِ جميعَ حيواناتِ البرِّيَّةِ وجميعَ طَيرِ السَّماءِ

 

لقد صنع الله كلّ شيء ليكون في خدمة الإنسان، فالإنسان لا يمكن أن يحيا وحيداً، لذلك جبل الله له كلّ كائن حيّ.  جبل الله له مثيلاً يعينه، إنمّا هذا المثيل من الناحية الماديّة لا يمكن أن يلبّي رغبة الإنسان.  تطلّعات الإنسان ليست فقط مادّيّة طبيعيّة أو حيوانيّة، لذلك لا يمكن للمادّة (مال، أملاك، طبيعة...) أن تملّي قلبه ورغبته، ولا يمكن للنّاحية الحيوانيّة (رغبات عاطفيّة وجنسيّة، أو مشاعر حرب أو قتال، أو طعام ولذّة...) أن تسدّ رغبته العميقة، لذلك لم تكفِه المخلوقات.

 

وجاءَ بِها إلى آدمَ لِـيرى ماذا يُسَمِّيها، فيحمِلَ كُلٌّ مِنها الإسمَ الّذي يُسمِّيها بهِ.20فسمَّى آدمُ جميعَ البَهائمِ وطيورَ السَّماءِ وجميعَ حيواناتِ البرِّيَّةِ بأسماءٍ، ولكِنَّهُ لم يَجِدْ بَينَها مثيلاً لَه يُعينُهُ.

 

هذه المخلوقات كلّها حسنة، إنمّا لا يمكن أن تلبّي حاجته العميقة بأن يكون كائنًا له شريك، ويكون في شراكة حياة مع مثيل له.  لذلك سلّطه الله على المخلوقات، فإعطاء الإسم يقوم به الوالد أو المسؤول عن الطفل أو الشيء، والله جلب كلّ هذه المخلوقات إلى آدم ليعطيها إسماً، أي جعله وكيلاً عليها ليحميها، إنمّا لم يجد بينها مثيلاً له.  الإنسان يحمل مسؤوليّة الطبيعة فالله أوكله بها (15وأخذَ الرّبُّ الإلهُ آدمَ وأسكنَهُ في جَنَّةِ عَدْنٍ لِـيَفلَحَها ويَحرُسَها) أي ليحسّنها ويحافظ عليها.  سوف نجد لاحقاً أنّ الإنسان ما بعد خطيئته قد بدأ يدمّر طبيعة الله الجميلة.

 

 لا يَحسُنُ أنْ يكونَ آدمُ وحدَهُ ، فأَصنعُ لَه مَثيلاً يُعينُه

 

حرفيّاً يقول الله: "ليس حسناً" وهو يعيدنا إلى قصّة التكوين الأولى حيث نجد سبع مرّات أنّ الله يجد "حسناً" ما خلقه.  بقاء آدم وحيداً ليس حسن، أي أنّه يخالف طبيعة خلق الله للإنسان.

 

مثيلاً يعينه، حرفيّاً يستعمل الكاتب كلمة: قبالته، مقابله، رغم وجود كلمة أخرى تعني: مثله، صورة طبق الأصل عنه.  يستعمل الكاتب هذه العبارة ليقول إنّ المرأة ليست آدم آخر، بل هي مثله ومقابلة له، هما ليساً كائنين متطابقين بل متكاملين، يكتمل الواحد بالآخر.

فعل "يعينه" لا يعني فقط العمل الجسديّ فالرجل من هذه الناحية أقوى من المرأة، إنّما كلمة `ëºzer (عِزِر) تُستعمل عادة للمعونة الإلهيّة.  هكذا نفهم أنّها مساعدة لإتمام ما لا يمكن للإنسان (للرجل في هذه الحالة) أن يقوم به وحيداً: المشاركة في الخلق والعيش في شركة حياة.  فالإنسان على صورة الله ومثاله، والله الثالوث لم يبقَ وحيداً، بل منه وُلد منذ الأزل الإبن الكلمة، وانبثق منهما الروح القدس.  وعلى النطاق التاريخيّ خلق الله الإنسان من فيض حبّه.  على صورة الله الثالوث الذي يحيا في شركة حياة، يحيا الإنسان في شركة حياة مع من هي من لحمه، ويشارك في الخلق على صورة الله الخالق.

 

 فأوقَعَ الرّبُّ الإلهُ آدمَ في نَومٍ عميقٍ

 

الكلمة التي يستعملها الكاتب هنا ليست تعني النوم الطبيعي، بل هي النوم الثقيل الذي يلقيه الله على شخص ما في العهد القديم (وفي العهد الجديد أيضاً في حالة الترائي في الحلم ليوسف خطّيب مريم)، عندما يريد التحضير لرؤيا إلهيّة.: تك 15، 12 "مالَتِ الشَّمسُ إلى المغيـبِ وقعَ أبرامُ في نَومٍ عميقٍ، فا‏ستولى علَيه رُعبُ ظلامٍ شديدٍ‌13فقالَ لَه الرّبُّ إعلَمْ جيِّداً ..." وأيّوب 4،12- 13 "مرَّةً كلاماً خفيًّا تسَلَّلَ هَمْساً إلى أذُني13في هواجِسِ أحلامِ اللَّيلِ عِندَ وُقوعِ سُباتٍ على النَّاسِ‌ ".

 

 وفيما هوَ نائِمٌ أخذَ إحدى أضلاعِهِ وسَدَّ مكانَها بِلَحْمٍ.وبنى الرّبُّ الإلهُ ا‏مْرأةً مِنَ الضِّلعِ التي أخذَها مِنْ آدمَ

 

صنع الله الإمرأة، رفيقة آدم من ضلعه، ليس من رأسه لئلاّ تتسلّط عليه، ولا من قدمه فيدوسها، بل من جنبه، من ضلعه، لتكون مساوية له، تحت ذراعه ليحميها وقرب قلبه ليحبّها.  الكاتب أراد أن يعلّم القارئ عن معنى الزواج الحقيقيّ: ليست علاقة تسلّط، ولا علاقة فوقيّة، بل علاقة مساواة وحماية وحبّ، وإعطاء الذات في سبيل الآخر.  لهذا نجد آدم الجديد على الصليب يخرج من جنبه- ضلعه دمّاً وماء، أي الكنيسة، حوّاء الجديدة وعروس المسيح، التي لم يعدّها أدنى منه قيمة بل جعلها جسده السرّي، لا لتتسلّط هي عليه، على الحقيقة التي أعطاها لها وتغيّرها، بل لتكون وفيّة له وللحقيقة التي ائتمنها عليها.

 

وسدّ مكانها بلحم: هدف الكاتب لم يكن فقط المحافظة على جمال جسم آدم، بل هو يقول إنّ مصدر هذا الحب لا يمكن أن نراه، هو مدفون في أعماق الإنسان، ينبع من عمق أعماقه.

 

هو سرّ الزواج الذي أسّسه الله عندما خلق الإنسانَ رجلاً وامرأة، والذي تمّمه المسيح بموته على الصليب فداءً عن كنيسته، عروسه المقدّسة.  بهذا المعنى يقول النص: "ولِذلِكَ يترُكُ الرَّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويتَّحِدُ با‏مرأتِهِ، فيصيرانِ جسَداً واحداً‌" كلمة سوف يذكّر بها المسيح.

 

يصبحان جسداً واحداً لا يعني فقط العلاقة الجنسيّة القائمة بين الرجل والمرأة، بل إنّ هذه العلاقة الجسديّة هي تعبير ملموس وحسّي عن العلاقة الروحيّة التي تجمعهما، والتي تعكس حبّ الله الثالوث الخالق، لأنّهما يشاركان بالخلق، وحبّ المسيح الفادي عروس الكنيسة لأنّه يرتبط بالكنيسة بعلاقة حبّ تتجلّى بموته من أجلها وبوفائها الدائم له.  جسداً واحداً نفهمه أيضاً بجسد الطفل ثمرة هذا الحب الذي يعكس حبّ الله، وبجسد المسيح الإفخارستيّ (الأسراريّ) وجسد المسيح السرّيّ (الكنيسة) الذي يثمره حبّ المسيح وكنيسته.

 

 وكانَ آدمُ وا‏مرأتُه كِلاهُما عُريانَينِ، وهُما لا يَخجَلانِ

 

إنّ الله قد خلق جسد الرجل والإمرأة مليئاً بالخير والصلاح، لذلك لم يخجلا بعريهما.  غياب الخجل هذا هو دليل كمال إنسانيّ وكرامة متجلّية لجسد الإنسان كما هو، لأنّ الخطيئة لم تكن قد ملكته، ولأن الآخر لم يكن ينظر إليه كغاية وكسلعة.  هذه الحالة سوف تتغيّر عندما يرفض الإنسان أن يكون متعلّقاً بالله وخاضعاً له.

 

[1] Ovid, Metamorphoses 1.82

[2] C. C. Lamberg-Karlovsky, JNES )Journal of Near Eastern Studies( 41 [1982] 45–50; J. B. Pritchard (ed.), Ancient Near Eastern Texts (ANET) (3rd ed. with supplement. Princeton: Princeton UP, rev. 1969), 152.

 

&

صور