الكتاب المقدّس | العهد القديم
١٣‏/١٠‏/٢٠١٦ سفر التكوين | الأب بيار نجم ر.م.م

قايين وهابيل

عرف آدمُ ا‏مرأتَهُ حَوَّاءَ فحَمَلت ووَلَدَت قايـينَ. فقالت صار لي رجل من الرّبُّ

الأسماء: في الكتاب المقدّس يحمل الإسم أهميّة كبيرة جدّاً، لأنّه يدلّ ليس فقط على هويّة الإنسان التاريخيّة أو الإجتماعيّة، إنّما أيضاً على هويّته الروحيّة ومزاياه الداخليّة وعلى مخطّط الله له.  لذلك نرى آدم (أي المأخوذ من الأرض) دلالة على حقيقته الإنسانيّة، حوّاء: أمّ الأحياء (دلالة على دورها المستقبليّ في إعطاء الحياة)، إبراهيم (أب شعوب كثيرة) دلالة على مخطّط الله له، يسوع: الله المخلّص، دلالة على حقيقته الإلهيّة ومخطّط الله الخلاصي للبشر من خلاله، ولقبه: عمّانوئيل، أي أنّ الله حاضر فعلاً معنا من خلاله، وهو الله الحاضر بيننا)...

 

لذلك نجد أنّ أسماء ابني آدم وحوّاء لهما أيضاً معنى رمزيّاً يهمّنا لنفهم النص جيّداً:

 

قايين: من فعل "قنى" العبريّ، أي ٱمتلك وٱقتنى.  إنمّا هو يعني أيضاً "خلق"، فالله الخالق هو نفسه الله الذي يملك كلّ ما خلقه، وحين يخلق الله شيئاً ما يملك عليه.

 

ولادة قايين والقصّة التي سوف تليه هي بغاية الأهمّية، ليس لمعناها التاريخيّ إنّما للبعد التعليميّ، أي للرسالة التي يوجّهها النصّ.  هو نوع من النصوص يُدعي نصّ مبَرمِج (texte programmateur)، وهذا النوع من النصوص هو عبارة عن رواية ما، يعطيها الكاتب لتُطبَّق على كلّ الجنس البشريّ، وحين يقرأها إنسان ما يعلم أنّها موّجهة إليه شخصيّاً.  قايين هو المولود الأوّل في الجنس البشريّ، أي أنّه نموذج عن كلّ كائن بشريّ مولود من رجل وامرأة.  آدم هو أب الجنس البشريّ، إنّما هو وُلد مباشرة من الله الخالق، بينما قايين وُلد مثل كلّ إنسان، وبالتالي فحياته يمكن أن تكون نموذجًا لحياة كلّ إنسان.

 

صار لي رجل من الرّبُّ 

 

qänîºtî ´îš ´et-yhwh

 

هي جملة غريبة جدّاً في النص الأصليّ ويصعب فهمها، حوّاء تقول حرفيّاً: لقد ٱقتنيت رجلاً مع الله.  وتملك هذه الجملة تفسيرات عدّة.

 

أ‌-  لقد خلقتُ رجلاً مثل الربّ.

ب‌-  لقد خلقتُ رجلاً بمساعدة الربّ.

ت‌-  لقد ٱقتنيت رجلاً، لقد ٱقتنيت الربّ. (إذا اعتبرنا أنّ ´et هي أداة المفعول به وليس أداة عطف).

 

الغريب أنّ حوّاء لا تقول: لقد ولدت ولداً بمساعدة الله، بل: صار لي رجلٌ مع الله (أو بالله).

 

بعض الشرّاح يقولون إنّ هذه الصرخة التي أطلقتها حوّاء هي خطيئة كبرياء أخرى ترتكبها: تجعل نفسها مثل الله، تقول: أنا أيضاً خلقت رجلاً آخر مع الله.  إذا ربطنا هذا الأمر بما قلناه سابقاً عن خطيئة حوّاء المبنّية على الكبرياء، وعلى رغبتها بأن تكون مثل الله، نفهم أنّها لم تتُب بعد، وأنّ حياتها كلّها هي رغبة دائمة بأن تكون مثل الله.

 

إنّما التفسير المنطقي يبقى أنّ حوّاء قد حقّقت دعوتها الإنسانيّة بأنّها اشتركت مع الله في الخلق من خلال عمل الولادة.  في النص السابق، رأينا أنّ آلام الحمل هي من نتائج الخطيئة، إنّما إعطاء الحياة لإنسان لا يمكن أن يكون أبداً من نتائج الخطيئة الأولى، بل هو من نتائج خلق الإنسان على صورة الله ومثاله.

 

هناك أيضاً تفسير ممكن: بقولها صار لي رجل من الرّبُّ لا تتكلّم حوّاء عن قايين، بل عن آدم.  قايين هو طفل وليس رجل، آدم هو الرجل.  حين خُلقت حوّاء قال آدم: "إنّها لحم من لحمي وعظم من عظامي"، وحين وُلد قايين قالت حوّاء أن قد صار لها رجل.  الرجل هو آدم الذي بلغت رجولته معناها الأسمى بإنجابه ولداً.  حقّق دعوته الأسمى بأن صار شريكاً لله في الخلق.  فالدعوة الأولى التي دعا الله آدم إليها هي: أنموا وٱكثروا وٱملأوا الأرض.

 

إذاً حوّاء لا تقول إنّها هي مثل الله، قادرة على إعطاء الحياة، بل تقول إنّها أعطت الحياة مع آدم لقايين بحسب أمر الربّ.  لقد تصالحت حوّاء مع الله بواسطة قايين، فحوّاء أعطت آدم الثمرة بعكس إرادة الربّ فمات، والآن تعطيه ثمرة حبّهما بحسب إرادة الربّ فكانت له الحياة.

 

لا تقول حوّاء إنّها أنجبت رجلاً مع آدم، بل من الله: ابنها ليس ملكاً خاصّاً بها وبآدم، بل هو عطيّة من الله.  تقول حوّاء إنّها ليست مصدر الحياة، فالله هو المصدر الأوحد.  كما أنّها لا تقول إنّ قايين هو من آدم، لأنّ حبّها لآدم بلغ كماله بالإنجاب، وهذا الحب لا يصل إلى آدم وينتهي، هو ليس حبّاً مقفلاً على الشريك، بل هو حبّ الله من خلال حبّ الشريك.

 

الإمرأة ´iššâ  أُخذت من الرجل´îš (تك 2، 23)، والآن ها هو الرجل ´îš يؤخذ من الإمرأة ´iššâ  (تك 4، 1).  هي ٱستمراريّة الحبّ بين الرجل والمرأة.  الرجل ليس أسمى مرتبة من المرأة لأنّها أُخذت منه، فها هو الآن يؤخذ منها: هما متساويان، يكمّلان الواحد الآخر ولا وجود للواحد دون الآخر.

 

وعادَت فوَلَدَت أخاهُ هابـيلَ

 

هابيل: هو إسم غريب أن يدعى به إنسان، مشتقّ من كلمه "Habel" أي البخار، النفَس الذي يزول، الشيء العابر الذي لا يدوم.  اسمه يشير إلى مستقبله، وأنّه مثل النفس والبخار سوف ينقطع فجأة.

 

يشدّد الكاتب على كلمة "أخاه".  كان يمكنه أن يقول، "وعادت فولدت إبناً آخر".  التشديد على كلمة "أخ"، هي تشديد على هول الخطيئة التي سوف يقترفها قايين في ما بعد.  بما أنّ هذا النصّ هو نصّ مبَرمِج كما قلنا سابقاً، فهو يعني كلّ إنسان في كلّ الأزمنة.  النصّ يقول إنّ البشر وُلدوا إخوة، والعلاقة الطبيعيّة التي يجب أن تربطهم هي علاقة الأخوّة والمحبّة.  إنّما نرى أنّ البشر يقتتلون ويغدر الواحد بالآخر والشعب بالآخر.  يقول النصّ إذاً إنّ الحرب والقتل والعداوات بين البشر هي خطيئة مخالِفة للعلاقات الطبيعية، وهي ناتجة عن شرّ البشر.  هي دعوة للأخوّة بين البشر.

 

هذا الأمر، إذا وضعناه في واقع شعب الله، نفهم أنّه يقصد:

1- الممالك الغريبة والقويّة التي ٱجتمعت ضدّ إسرائيل، فاحتلّته وقادت أبناءه إلى السبي، وأرغمته على أن يعبد آلهة أخرى: مصر، وأشور، وبابل والفرس...

2- مملكة الشمال (11 قبيلة) تحالفت ضد مملكة الجنوب (قبيلة واحدة) لتزيلها من الوجود.  ممالك الشمال الكبيرة رُمز إليها بقايين الذي غار من وفاء مملكة يهوذا لله ورفضها عبادة آلهة أخرى، هاجمتها وحاولت قتلها.

 

وصارَ هابـيلُ راعيَ غنَمٍ وقايـينُ فلاَّحاً يفلَحُ الأرضَ

 

يبدو لنا من الوهلة الأولى أنّ الله قد ميّز بين الأخ وأخيه، فقبل محرقة الثاني ولم ينظر حتّى إلى الأوّل.  لكي نفهم المعنى الحقيقيّ للنصّ يجب أن نفهم معنى العمل الذي كان كلّ واحد يقوم به.

 

قايين كان مزارعاً:

-  المزارع يعمل في مكان ثابت.

-  للمزارع عائلة يعيش فيها، تؤمّن له حاجاته، ولا يكون أبداً في وحدة بل تحيط به عائلته.

-  المزارع يملك بيتاً ومورد رزق ثابتين ولا يحتاج للإنتقال من مكان الى آخر.

-  المزارع وظيفته بعيدة عن المخاطر.

 

هابيل كان راعياً:

-  الراعي يتنقّل دائماً.

-  لا يمكن للراعي أن يبقى دائماً قرب عائلته، بل عليه أن يغيب لفترات طويلة بعيداً عن عائلته.

-  على الراعي أن يتنقّل دائماً، ويغيّر كلّ فترة مكان إقامته وإقامة عائلته.

-  الراعي يحيا دائماً في خطر من الحيوانات المفترسة ومن اللّصوص، ومن الأحوال الجويّة السيئة: البرد أو الحر أو الثلج.

 

ماذا نفهم؟ الله لم يفضّل وظيفة على أخرى، فكلّ وظيفة هي جيّدة إن كان من يقوم بها يتّقي الله، إنّما لهذه الوظائف رمزيّتها في العهد القديم:

-   إبراهيم كان ثابتاً في مدينة أور الغنيّة، فطلب منه الله أن يترك كلّ شيء ويتبعه.

-  موسى كان ساكناً في قصر فرعون، فطلب الله منه أن يخاطر بكلّ شي ويتبعه.

-  إسرائيل كان شعباً دائم الترحال، وعندما تكبّر طلب أن تكون له مدينة ذات أسوار، وملك مثل سائر الشعوب، بعكس إرادة الله (1صم 8)، فقال الله لصموئيل: "إسمع لطلب الشعب (بأن يكون لهم ملك)، فإنّهم لم يرفضوك أنت، بل رفضوني أنا أن أكون عليهم ملكاً" (1صم 8، 7).

 

المغزى هو ليس في وظيفة قايين وهابيل، بل في حالتهما: قايين هو ساكن المزرعة، له بيت وعائلة وأصدقاء، ولا يعيش في خطر، أي أنّه قد وجد لنفسه الأمان خارجاً عن الله، بينما هابيل هو من ليس له شيء ثابت، بل الله هو ضمانته الوحيدة، لا يخاف أن يخاطر لأنّه متّكل على الله، والله هو ضمانته الوحيده في رحلاته الخطيرة.

 

الوظيفة هي إذاً ذات رمزيّة: خطيئة قايين هي أنّه خلق لنفسه الأمان خارجاً عن الله، استغنى عن الله وفتّش أن يكون متحكّماً بمصيره، تماماً مثل حوّاء التي رفضت أن يكون الله هو الإله الأوحد وأرادت أن تصبح مثل الله بقوّتها الشخصيّة.  هي خطيئة الكبرياء ورفض الخضوع لله والعيش بتعلّق دائم به.

 

هي أيضاً خطيئة ممالك الشمال التي سعت أن تقاوم خطر الأعداء بقوّتها الذاتيّة وباتّكالها على تحالفها مع الأمم الوثنيّة: "الويل لأولئك الذين ينـزلون إلى مصر ليفتّشوا عن معونة لهم، ويتوكّلون على الخيل والعربات... ولا يلتفتون إلى قدّوس إسرائيل ولا يفتّشون عن السيّد" (أشعيا 31، 1).

 

 وَمرَّتِ الأيّامُ فقَدَّمَ قايـينُ مِنْ ثَمَرِ الأرضِ تَقدِمَةً لِلرّبِّ،وقَدَّمَ هابـيلُ أيضاً مِنْ أبكارِ غنَمِهِ ومِنْ سِمانِها:

 

نرى الفرق في التقدمة من طريقة سرد الكاتب للأحداث: قايين قدّم من ثمار الأرض، قدّم جزء من كلّ، قدّم ما هو مماثل لما سيأكله هو، بينما هابيل قدّم الأبكار والسمان، قدّم الأجود، قدّم لله الأحسن واحتفظ بالعادي.  هنا يكمن الفرق: الله لم يميّز بين الفاكهة والحيوانات، لم يفضّل الأغنام على الثمار، إنّما نظر الى نوعيّة قلب ونيّة المقدّم.  خطيئة قايين أنّه أعطى للرّب قسماً، وترك لنفسه قسماً مشابهاً، جعل نفسه شبيهاً للّه ومعادلاً له، بينما قدّم هابيل الأجود، أي أنّه ٱعترف أنّ لله الحق في كلّ شيء يملكه، لأنّ الله أعطى كلّ شيء.  قايين قدّم الواجب بينما قدّم هابيل عرفان الجميل إزاء الله.

 

فنظَرَ الرّبُّ برضًى إلى هابـيلَ وتَقدِمتِهِ‌،5أمَّا إلى قايـينَ وتَقدِمتِهِ فما نظَرَ برضًى، فغَضِبَ قايـينُ جِدًّا وخفض رأسهُ.

 

هي نتيجة طبيعيّة لتصرّف كلّ واحد من الإخوة، لأنّ الله لا ينظر الى التقدمة، بل إلى قلب المقدِّم ونيّته.  رغم هذا شعر قايين بالغيرة، هو لم يقدّم شيئاً إنّما رغم هذا طلب ثناء الله.

 

خفض رأسه: ليس بسبب الحياء بل بسبب الغضب، خفض الرأس يعني قطع العلاقة مع الله، فالذي يصلّي يرفع عينيه نحو الله (رفعت عينيّ إلى الجبال من حيث تأتي نصرتي مز 121، 1).  دخل قايين في علاقة عداوة مع الله.

 

 

فقالَ الرّبُّ لِقايـينَ لِماذا غَضِبتَ ولِماذا عبَسَ وجهُكَ إذا أحسنْتَ عمَلاً، رفَعْتُ شأنَكَ، وإذا لم تُحسِنْ عمَلاً، فالخطيّةُ رابِضةٌ بِالبابِ وهيَ تَتَلهَّفُ إليكَ، وعلَيكَ أنْ تسُودَ علَيها.

 

الله لم يترك قايين، بل حاول إبعاده عن أفكاره الشرّيرة.  لم يقطع علاقته به رغم سوء نيّته، الله يحاول أن ينقذ الخاطئ من الهلاك ومن الإستمرار في مخطّطه الشرّير.

 

الله يعلّم قايين كيفيّة الدخول في علاقة حبّ معه، والشرط الوحيد هو التصرّف الحسن.

 

هذه الجملة معقدّة جدّاً في النصّ العبرانيّ، ويمكن أن لا تكون هذه الترجمة حرفيّة.  المشكلة فيها هي أوّلاً تقطيعها إلى جمل قصيرة، أين تبدأ وأين تنتهي كلّ جملة، والثانية هي أنّ الخطيئة هي مؤنّث في العبريّة بينما الفعل مستعمل في المذكّر (الخطيئة رابض بالباب).  الجملة كما نقرأها الآن هي:

 

 لِماذا غَضِبتَ

ولِماذا عبَسَ وجهُكَ

إذا أحسنْتَ عمَلاً

رفَعْتُ شأنَكَ

وإذا لم تُحسِنْ عمَلاً

فالخطيّةُ "رابِض" بِالبابِ

 

 إنّما الحلّ الآخر هي بأن نفهم أنّ الجملة الأخيرة تنتهي عند الخطيئة، و"رابض بالباب" هو اسم فاعل لكائن آخر، الحيّة أو الشيطان.  إذاً النص يصبح:

 

لِماذا غَضِبتَ

ولِماذا عبَسَ وجهُكَ

إذا أحسنْتَ عمَلاً

رُفعتَ

وإذا لم تُحسِنْ عمَلاً

فالخطيّةُ.

الرابِض بِالبابِ

يَتَلهَّفُ إليكَ

وعليك أن تسود عليه

 

الله يعطي قايين عدة خيارات، ويعلّمه أنّ رفض ذبيحته هو ناتج عن خطأه هو، لا عن تفضيل أخيه عليه: يقول النصّ حرفيّاً "أذا أحسنت عملاً يكون الرفع"، أي إذا قام بالخيارات الجيّدة وبنيّة حسنة، تُرفع، أي تُقبل تقدمته، وهذه إشارة إلى أنّ ذبيحة هابيل قُبلت لأنّه أحسن عملاً، وبنيّة حسنة.

 

الله لا يكتفي بالشرح حول الماضي، إنّما يحذّر قايين من المستقبل: إذا أصرّ على نواياه السيّئة فالشرير ينتظره.  يقول إنّ هذه الحالة التي يمرّ فيها قايين هي تجربة من الرابض بالباب، أي من الشرير الرابض كالحيوان المفترس ينتظر سقطة قايين.  قايين مدعوّ لأن يسود على التجربة لا أن يخضع لها.  هذا هو العهد الذي قطعه الله مع قايين: إن ٱختار الخير يُرفع، وإن ٱختار الشر يصبح مُلكاً للخطيئة الرابضة تنتظره.

 

كما نرى حاول الله أن يغيّر مقاصد قايين مسبقاً، إنّما باحترام مطلق لحرّيته.  أنار معرفته ليدرك أخطار خياره السيء، إنّما نرى قايين يبقى صامتاً، لا يجيب الله ولا يدخل بحوار معه، أقفل قلبه أمام نعمة الله وتبنّى الخطيئة.

 

وقالَ قايـينُ لِهابـيلَ أخيهِ هيَّا لِنَخرُجْ إلى الحقلِ‌. وبَينَما هُما في الحقلِ هجَمَ قايـينُ على هابـيلَ أخيهِ فقَتَلَهُ‌.

 

الخروج إلى الحقل أي أنّه وضع أخيه في موقف لا يمكن له الخلاص منه، لا يمكن لأحد مساعدته، حاصر أخيه من كلّ الجهات كما حاصرت مملكة الشمال المتحالفة مع الشعوب الغريبة مملكة الجنوب لتبيدها.  هو وعي قايين للخطيئة التي يريد ٱقترافها، لذا ذهب مع أخيه إلى الصحراء.

 

في 2، 5 نجد أيضاً كلمة "حقل" (Sädè)، إنّما هي ليست الحقل المزروع بعد، هي مكان الوحوش الضارية والنبات، هي المكان الذي يُخرج فيه الراعي خرافه لترعى.  قايين أخرج أخاه الى هناك لا ليرعاه ويعطيه الحياة بل ليقوم بالعكس تماما: ليقتله.  هابيل الراعي أُخرج إلى المرعى ليُقتل، وهو البريء الذي يُخرج الخارف إلى المكان نفسه لتعيش، وليكون في خطر من الطبيعة ومن الحيوانات في سبيلها.  الخاطئ يخالف طبيعة الخلق، يعمل بعكسها ويدمّرها.

 

فقالَ الرّبُّ لِقايـينَ أينَ هابـيلُ أخوكَ قالَ لا أعرِفُ. أحارِسٌ أنا لأخي

 

الله يسأل قايين عن أخيه، رغم أنّه يعرف ماذا حدث.  السؤال نفسه طرحه الله على آدم بعد الخطيئة: "أين أنت؟"  الله يحاول أن يدفع قايين إلى الإقرار بخطيئته وإلى تحمّل مسؤوليّته.  نرى الله الذي يتّجه مباشرة إلى الخاطئ ليخلّصه، إنّما الوسيلة الوحيدة للخلاص هي في الإقرار بالخطأ وتحمّل المسؤوليّة.

 

قايين يقول: لا أعرف.  آدم أجاب نصف حقيقة حين سأله الله، لكنّ قايين كذب ونفى الحقيقة.  وفوق هذا كلّه كان قايين يتهكّم: أحارِسٌ أنا لأخي؟ هابيل هو الراعي، هو الحارس، قايين يقول: "أأنا حارس للحارس؟".  رفض الإقرار بخطأه ورفض أيضاً الإقرار بواجب حماية أخيه.  الله أوكل إلى آدم حراثة الخليقة وحراستها (2، 15)، وهنا يرفض قايين هذه المهمّة، لا يريد أن يعتبر نفسه مسؤولاً عن حماية الخليقة، لأنّ الخطيئة تقطع كلّ رباط حسن بالخليقة وبالإنسان.  بالخطيئة يتحوّل الإنسان من حارس للإنسان وللمخلوقات إلى مدمّر لها.

 

 فقالَ لهُ الرّبُّ ماذا فَعَلْتَ دَمُ أخيكَ‌ يصرُخُ إليَّ مِنَ الأرضِ. والآنَ، فمَلعونٌ أنتَ مِنَ الأرضِ الّتي فتَحت فَمَها لِتقبَلَ دَمَ أخيكَ مِنْ يَدِكَ. فهِـيَ لن تُعطيَكَ خِصْبَها إذا فلَحْتَها، طريداً شريداً تكونُ في الأرضِ

 

هذا السؤال "ماذا فعلت" لا يتعلّق فقط بالجريمة، إنّما بالإنكار أيضاً.  كان الله يطلب من قايين التوبة، إنّما الآن يظهر له خطورة الإنكار ورفض التوبة: ماذا فعلت؟ بجوابك هذا لعنت نفسك؟ هذا السؤال هو حسرة يعلنها الله على قايين: كان يريد منه أن يتوب، وها هو يقفل الآن كلّ باب للخلاص لأنّه مصرّ على الخطيئة.

 

أمّا العقاب، فهو النتيجة الطبيعيّة والحتميّة لخطيئة قايين ورفضه التوبة: يعلن له الله عن نتيجة الخطيئة، ولا يقول: "أنا ألعنك"، فاللعنة هي نتيجة الخطيئة، وبالتالي فقايين هو سبب اللعنة وليس الله.

 

دَمُ أخيكَ‌ يصرُخُ إليَّ مِنَ الأرضِ:  الدمّ هو الحياة (لاويين 17، 11)، وإراقة الدم هي جريمة ضدّ الله معطي الحياة، لأنّها قتل للإنسان المصنوع على صورة الله ومثاله، هي محاولة الإنسان لأن يعود بالوجود إلى العدم، معاكساً عمل الله.

 

يصرخ (cö`áq) (زعق) تستعمل في العهد القديم للكلام عن صرخة الإنسان الذي لا خبز لديه (تك 41، 55) والذي ينتظر الموت (خر 14، 10) أو المستعبد من قبل أعداءه (قض 4، 3) أو صرخة الإمرأة التي اغتُصبت (تث 22، 24. 27)، هي الصرخة التي يطلقها المظلوم نحو الله (خر 22، 22-23؛ أش 19، 20).  هي صرخة المظلوم والضعيف الذي يقدر الله وحده أن يردّ له حقّه بواسطة العدالة.

 

 فمَلعونٌ أنتَ مِنَ الأرضِ: الأرض تلعن قايين، هو ملعون وبالتالي على عداوة مع الأرض الخصبة التي كان يزرعها.  في الفصل الثالث نرى الأرض والحيّة قد لُعنتا، إنّما الإنسان لم يُلعن.  هنا نرى اللّعنة طالت الإنسان أيضاً، هو في أقصى نقاط وجوده سوءاً.  خطيئة آدم كانت ضدّ الله، والله غفر له شخصيّاً، إنّما خطيئته ألحقت الضرر بالأرض، إنّما خطيئة قايين كانت ضدّ الإنسان، ولذلك لُعنَ الإنسان، لأنّه بنوع من الأنواع قد قتل إنسانيّته.

 

تحوّل قايين بسبب خطيئته إلى إنسان غير مستقر، إلى مترحّل دائم.  هي حالة عدم الإستقرار التي يعيشها الخاطئ، لأنّه بعيد عن الله.  طريداً مِن مَن؟ من يطارد قايين؟ خطيئتُه وشرّه والإنسان الآخر الذي صار عدوّه.  قايين ٱفتتح مأساة الحروب بين البشر.

 

إنّما الله لا يميت قايين بحسب شريعة العين بالعين.  الله تصرّف كقاضٍ في ما سبق، إنّما كان أيضاً الأب الرحوم، لم يقتل قايين بل تركه حيّاً.  وفي حياته عليه أن يتحمّل مسؤوليّة عمله ليتحرّر من خطيئته.

 

فقالَ قايـينُ للرّبِّ عِقابـي أقسى مِنْ أن يُحتَمَل. طرَدْتَني اليومَ عَنْ وجهِ الأرضِ وحجَبْتَ وجهَكَ عَنِّي، وطريداً شريداً صِرْتُ في الأرضِ، وكُلُّ مَنْ وجَدَني يقتُلُني

 

هل هي توبة قايين؟ للأسف لا؟ هي خطيئة أخرى يرتكبها تجاه الربّ.

1-  لم يجد خطيئته كبيرة، بل وجد العقاب كبيراً.

2-  شكّك في قدرة الله في أن يساعده على البقاء حيّاً رغم العقاب، لا يقول: أشدّ من أن أحتملها، بل أشدّ من أن يُحتمل، أي لا يقدر أحد على احتمالها، حتّى الله.

3-   يلقي اللوم على الله في الخطر الذي قد يتعرّض له، كما لو أنّه يقول "أنت طردتني من الأرض، وإذا قتلني أحد، هي مسؤوليّتك".  آدم ألقى اللوم على الله في الخطيئة: "المرأة التي أعطيتنيها أنت"، حوّاء ألقت اللوم على الحيّة، قايين يلقي اللوم على الله.  لا أحد يتحمّل مسؤوليّته ويتوب فيغفر له الله.

4-   قايين عرف أنّه أدخل عقليّة القتل إلى العالم، لذلك فكلّ من يلتقيه سوف يقتله.  هو الخوف وليس الندم على الشرّ الذي أدخله إلى العالم.

 

فقالَ لَه الرّبُّ إذاً، كُلُّ مَنْ قتَلَ قايـينَ فسَبْعَةُ أضعافٍ يُنتَقَمُ مِنهُ. وجعَلَ الرّبُّ على قايـينَ عَلامةً لِئلاَّ يقتُلَهُ كُلُّ مَنْ وجدَهُ. وخرَجَ قايـينُ مِنْ أمامِ الرّبِّ وأقامَ بأرضِ نُودَ‌ شَرقيَّ عَدْنٍ

 

لا يحقّ لأيّ إنسان قتل إنسان آخر حتى ولو كان هذا الآخر مجرماً أو شرّيراً، فالدينونة هي لله وحده.

 

كما أن الإنتقام البشريّ هو مواجهة للشرّ بالشرّ، لا يمكن للإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله أن يتبنّي عقليّة الحيّة، فالشرّير هدفه إعادة الخلق الحسن إلى "العدم" عن طريق إسقاطه في الخطيئة وإبعاده عن الله مصدر وجوده.  هذا الوعد لقايين هو أيضاً تحذير لكلّ إنسان: "لا تدين ولا تنتقم"، هي دعوة للمسامحة، فالله وحده يدين الإنسان.

 

السبعة أضعاف التي يقولها الله لا يمكن أن تعني أولاد قايين، رغم أنّ بعض الشرّاح اليهود القدماء يقولون هذا، فالله لا ينتقم من الوالد بسلالته البريئة.  إنّما قد يكون المعنى أنّ خطيئة القاتل سوف تنتقل إلى أبنائه، أي أنّهم كلّهم سوف يكونون مثله: هي دعوة لتحمّل مسؤوليّة تربية الأبناء على المغفرة والإتّكال على الله.

 

إنّما الشرح الأسهل لهذه الكلمة هي أنّ "السبعة" هو رقم الكمال والكثرة، وهو رمز مقدّس، وعلامة للعقاب الإلهي (راجع مز 12، 6-7؛ 79، 12؛ أمثال 6، 31).

 

ما هي هذه العلامة التي وضعها الله لقايين؟ الكتاب المقدّس لا يشرحها، وبالرغم من أنّ كثيرين حاولوا تفسيرها[1]، إلاّ أنّه لا يمكننا أن نجزم إن كان هناك فعلاً علامة خارجيّة: البعض يقول إنّها صورة الله التي ظهرت على قايين بوضوح أكثر لحمايته! إنّ العلامة في الكتاب المقدّس هي عادة تعطى للإنسان علامة لحسن نيّة الله نحوه: الله لم يرد موت قايين الخاطئ بل توبته.  بدل أن يُظهر قايين التوبة أظهر الخوف من مصيره ملقياً اللوم على الله كسبب أوّل لمأساته، كما رأينا سابقاً.  مهما كان نوع هذه العلامة، فالهدف منها هو حماية الخاطئ وتذكيره برحمة الله لكي يتوب.

 

وخرَجَ قايـينُ مِنْ أمامِ الرّبِّ هذا الخروج هو العقاب الأكبر، الإنفصال عن الله والإبتعاد عنه، الإنفصال عن سبب الوجود وغايته. والنتيجة هي سكنه في أرض نود، وكلمة نود العبرية تعني التجوّل والضياع دون هدف: هذا هو العقاب الأقسى للخاطئ، أن يضيع بعيداً عن الله، لا يجد له ما يملأ قلبه وكيانه لأنّه انفصل بخطيئته عن الله.

 

 

صور