مقالات
١٠‏/٢‏/٢٠١٦ قرأنا لكم | عدي توما

مدخل إلى الحياة التقيّة

أبا الروحانيّة الحديثة (فرنسيس دو سال) 

قراءةٌ منعشة في كتاب "مدخل إلى الحياة التقيّة" 

فرنسوا دو سال هو من مدرسة روحانيّة خاصة به. فهو بادئها ومطوّرها وذروتها. يقول فيليب هوغ: إنه في فرنسوا دو سال" تنصّر عصر النهضة الفرنسيّ، وصارت الأنسيّة تقيّة". إنّه أيضا جسرٌ بين عصر النهضة والفترة الحديثة، وأحد أشدّ التأثيرات في الروحانيّة منذ القرن السابع عشر حتى اليوم. 

ولدَ فرنسوا في إقليم السافوا العام 1567، ودرس لدى اليسوعيّين في باريس، ثمّ ذهب إلى بادوفا حيث نال الدكتوراه في الحقوق المدنيّة والكنسيّة. رُسِمَ في كانون الأوّل 1593، وعيّن رئيس مجمع جنوة. كرّس نفسه مباشرة لتبشير الكالفينيّين، ونجح في عمله نجاحــًا باهرًا فعُيّن مساعدًا لأسقف جنوة.

إنجذبَ فرنسوا منذ سنواته الآولى إنجذابًا شديدًا إلى أمور الله، وكانت مختلف أحداث حياته علامات على أنّ دعوته إلى الحياة الكهنوتيّة هي دعوة إلهيّة مباشرة. يقول ميشيل دو لا بودييه إنّ فرانسوا دو سال هو "أعظم القدّيسين، أقلّه في الزمن الحديث"، وأبني هذه القناعة على الشعور الذي تملّكني طوال الوقت أنه جسّد كيانا بشريّا في فترة تاريخنا الغربيّ، يعكس مباشرة، وبشكل طبيعيّ وعفويّ وفائق الطبيعة، شخصيّة المسيح ربّنا وطريقته". 

عقيدة فرنسوا، تقدّم تعليمًا روحيّا بطريقة مميّزة، وتدعم حركة انتقال الروحانيّة المسيحيّة من الإطار الديريّ الذي تكوّنت فيه طوال قرون ٍعديدة. وإن كان قد تدرّب على يد اليسوعيّين، كان فرنسوا إغناطيّا بوضوح ٍ في ممارساته الروحيّة، ولكنّه أوغسطينيّ في لاهوته، مع واقعية وتفاؤل أكوينيّين. 

كتاب "مدخل إلى الحياة التقيّة" - الذي سنأخذ قسمًا منه هنا - صدرَ أوّلا في العام 1609، والطبعة الأخيرة التي أشرف هو نفسه عليها صدرت في العامّ 1619. والكتاب هذا كُتبَ خصّيصا للعلمانيّين، ويقول الأب جوردان أومان الدومنيكيّ في كتابه الذي أقتبسُ منه هذا المقال (تاريخ الروحانيّة المسيحية في التقليد الكاثوليكيّ)، أنّ القديس فرنسوا هو أوّل الكتّاب الروحيّين الذين ألّفوا مقالا في الروحانيّة العلمانيّة. ويقول في المقدّمة إنّ الذين كتبوا في السابق عن الحياة الروحيّة وجّهوا كتاباتهم إلى من تركوا العالم أو علّموا روحانيّة تقود إلى الترك. 

ما المقصود من تعبير "الحياة التقيّة - التقوى"؟!

أولا، التعبير لا يعني أيّ نوع من النعمة الفائقة العادة أو الإمتياز (وكأنّ صاحبها أصبحَ الرجل الخارق - سوبر مان!)، ويقول القديس فرنسوا بوضوح: "هناك بعض الأمور يعتبرها كثيرون فضيلة وهي ليست كذلك... وأقصد الإختطافات، والنشوة، وفقدان الإحساس، والإتحادات التأليهيّة، والإرتقاءات، والتحوّلات، وما إلى ذلك من كمالات أخرى تمّت مناقشتها في بعض الكتب، وهي تبشّر برفع النفس إلى المشاهدة التأمليّة الفكريّة الصرفة، وإلى الإنكبات الجوهريّ للعقل، وإلى الحياة الفائقة... هذه الكمالات ليست فضائل، بل هي بالأحرى مكافآت يمنحها الله للفضائل، أو عيّنات من لذة الحياة المستقلبيّة... لذلك لا ينبغي للمرء أن يتوق إلى نِعَم ٍ كهذه، لأنها ليست ضروريّة على الإطلاق لحبّ الله وخدمته كما يجب، اللذين يجب عليهما أن يكونا غايتنا الوحيدة". 

ثانيا، التقوى الحقيقيّة ليست في أيّ ممارسة  روحيّة خاصّة: "لا أسمع سوى الكمالات، وأرى قليلا من الناس يمارسونها... فبعضهم يجعل فضيلته في التقشّف، وآخرون في الإمتناع عن الطعام؛ وبعضهم في إعطاء الصدقات؛ وآخرون في التردّد على سرّ التوبة و الإفخارستيّا؛ وآخرون مجموعة صلاة لفظيّة أو فكريّة؛ ويبقى آخرون في نوع من التأمل المنفعِل والسامي، وآخرون في النِعَم الفائقة الطبيعة الممنوحة بسخاء. كلّ هؤلاء مخطئون إذ يجعلون النتيجة سببـــًا، والجدول نبعًا، والأغصان جذورًا، والثانويّ أساسيّا، وحتى الخيال جوهرًا. أمّا أن(يقول القدّيس فرنسيس) فلم أعرف ولا اختبرتُ أيّ كمال ٍ مسيحيّ غير محبّة الله من كلّ قلبنا ومحبّى قريبنا كنفسنا. وكلّ كمال ٍ آخر غير هذا هو كمال مزيّف".

لهذا، فالتقوى الحقيقيّة، في نظر فرنسيس، هي مثل الكمال المسيحيّ، إتمام وصيّتي المحبّة التي أعلنها الربّ يسوع (متى 22 : 34 - 40)، ويعطي في المدخل إلى الحياة التقيّة عرضا مفصّلا يشبه التقوى بحسب لويس الغرناطيّ.

التقوى الحقيقيّة الحيّة، فيلوثيا، تفترض حبّ الله، ولكن ليس أيّ نوع من الحبّ: فطالما أن الحب الإلهيّ يجمّل نفوسنا، يُدعى "نعمة" ويجعلنا نرضى العزة الإلهيّة. 

يعالج القديس أيضا مسائل التجارب، والحزن، والتعزيات، والجفاف، ويختم عمله بسلسلة ٍ من الفحص الذاتيّ والإعتبارات بحيث تستطيع النفس أن تحكم على تقدّمها في التقوى الحقيقيّة. وهكذا، فإنّ مجمل كتاب "المدخل" يعطي برنامجـــًا كاملا للتقدم الروحيّ العلمانيّ. 

من الناحية العقائديّة، كانت أهمّ مساهمات القديس فرنسوا دي سال في اللاهوت الروحيّ هي "توحيد كلّ الأخلاق المسيحيّة والقداسة في رباط المحبّة". وهذه العقيدة علّمها بوضوح القديس توما الأكوينيّ ولاهوتيّون آخرون من العصر الوسيط، وكان من الضروريّ، في زمن القديس فرنسيس، الإلحاح مرّة أخرى على أنّ الكمال المسيحيّ ليس في أيّ تمرين خاصّ أو ممارسة خاصّة، بل في محبّة الله والقريبْ.