مقالات
٢٨‏/٤‏/٢٠١٧ Fiat Lux | أنطوانيت نمّور

«إفثا»

منذ بضعة سنين قليلة تمّ بيع واحدة من أربع النسخ الأصلية للوحة "الصرخة" لإدفارد مونك (Edvard Munch).

رسي المزاد على سعر قياسي بلغ 120 مليون$. عُرف هذا الفنان بأنه كان  شخصاً قلقاً ومسكوناً بالهواجس والأفكار المؤرّقة إثر فقده أفراد عائلته: أمه في عمر الخامسة و تبعتها أخته التي لم تكن قد أكملت عامها الرابع عشر. وعندما بلغ العشرين مات والده... في 22 كانون الثاني من عام 1892: كتب مونك في سجل يومياته مخلّداً توصيفه الشخصي لعمله هذا الذي صنّف ب "أيقونة الحداثة": "كنت أسير على طول الطريق مع اثنين من اصدقائي - غابت الشمس - وشعرت بعصفٍ من الحزن - فجأة تحولت السماء إلى اللون الأحمر الدموي. توقفت، إتكأت على السياج، متعب حتى الموت - كانت السماء المشتعلة معلّقة مثل الدم على سيف فوق المدينة و المضيق البحري الداكن الزرقة – ها هما صديقاي يمضيان فيما بقيت أنا واقفاً مرتجفاً قلقاً - وشعرت ب"صرخة" لامتناهية تمر من خلال الطبيعة".

 

يُجمع كثيرون من دارسي الفن على أن هناك سمة ملحوظة في لوحات عصر النهضة من القرن الخامس عشر ألا وهي قدرتها على خلق "فضاء": بضع ضربات من الطلاء كان من شأنها أن تفتح مجالاً و غالباً ما يكون على مدى العين وسعاً. ولكن بين القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر أتت الحركة التجريدية  و"سطّحت" هذا الفضاء. ويؤكد المفكرون أن لهذا التحوّل في الفن التصويري، مدلول ومضامين دينية.

 فأغلبية  من فناني عصر النهضة شكلوا لوحاتهم إنطلاقاً من "نظرة أسرارية" تكشف الطبيعة المنفتحة على "النعمة"، تستجيب لها، تقطنها وغالباً ما تكون وفيّة لها... الطبيعة هناك يسهل اختراقها، جميلة، تحتفل بمعزوفة الخلاص الذي يقدمه الربّ السيد بمجانية. 

 لكن في لوحات مونك كما العديد من زملائه، يبدو و كأن الله قد حُيّد وأبعد والخطوط  هنا لا ترقص على لحن النعمة. في نواح كثيرة أصبحت الطبيعة اكثر غموض و كأنها نتاج طفل يحاول إستعادة براءته الضائعة و يكافح لتصوير عالم ساحر و لكنه قابع في زاوية ذوي المهارات المحدودة... مونك الفاقد إيمان طفولته كان يرى أن الطبيعة في كآبة "عنيفة" تحتضر و هي بحاجة لأن تخلق من جديد: فأتت "الصرخة"، ولكن للمفارقة، لا خليقة من دون خالق... لم يبكي المولود و لم يصرخ للحياة... أتت "صرخة" مونك و كأنها صماء بكماء... تماماً ككل أعماله. عرف مونك أن لوحاته كانت صامتة. وهذا الصمت كان يرعبه. فأصبح هو صدى "الصرخة الصامتة" !!

 

 

«إفثا»: 

 في تعليقه على لوحة مونك هذه  يذكّرنا الكاتب دانيال سيديل بحادثة ورد ذكرها في الفصل السابع من إنجيل مرقس عن أصمّ أعقد: "وجاءوا إليه بأصم أعقد، وطلبوا إليه أن يضع يده عليه، فأخذه من بين الجمع على ناحية، ووضع أصابعه في أذنيه وتفل ولمس لسانه، ورفع نظره نحو السماء، وقال له: «إفثا». أي انفتح ! وللوقت انفتحت أذناه، وانحل رباط لسانه، وتكلم مستقيماَ". هنا يشفي السيد الرب هذا الرجل الذي ولد أصم وأبكم بطريقة تذكّر بسر الخلق... يأتي المسيح ليفتح آذان نفوسنا حتى يتسنى لنا أن نكون قادرين على سماع كلمته الخالقة في العالم. من دون المسيح لن نسمع شيئا سوى صوت الموت... ويتأسف الكاتب سيديل أن مونك لم يتقبل نعمة كلمة "إفثا" !!

 

 

"الفن يخرج من الفرح والألم"، كتب مونك في يومياته. لكنه خلص إلى أنّ "معظمه يخرج من الألم."

وقد يكون الفنان على حق ولكن...

المهم أن نجعل من هذا الألم مخاض ولادة، تماماً كما فعل السيد على الصليب:

من آلامه المبرحة التي تحمّلها حباً ببشريتنا ولّد الخلاص على سرير صليبه... ومن رحم القبر أشرقت القيامة!!

قبل أن يُسلم الروح على صليبه صرخ السيد "صرخة عظيمة":

هي صرخة مونك و كل بشري على مر العصور: "لماذا الموت وماذا بعد الموت؟" 

أما الجواب فأعطناه السيد بموته هو ولكن طبعاً وأيضاً بقيامته هو!!!

فبموته و قيامته برهان أن السلطان على الموت والحياة هو بيد أبانا الذي في السموات... ومن كان مصيره بين يدي أبيه، ينام وينام مطمئناً مسلّماً ذاته "بين يديك أستودع روحي"...

وبقيامة السيد  إشارة الى إمكانية قيامة البشرية حين تختار أن تتّحد به... نعم، مع الرب لم تتغيّر إمكانية الدخول في القبر ولكننّا بالرب مُنحنا وسيلة للخروج منه !وهكذا، على ما يقول الأب كانتالاميسا، واعظ الدار الرسولي، لم يعد الموت بالنسبة إلى المؤمن نهاية الحياة إنما بداية الحياة الحقيقية.... لا قفزة في الفراغ إنما قفزة في الأبدية.

ولكن أي أبدية؟؟؟

كتب مونك في ما بعد في مذكّراته يقول: "كانت ملائكة الخوف والندم والموت تحفّ بي منذ أن ولدت ولم تكفّ عن مطاردتي طوال حياتي. كانت تقف إلى جانبي عندما أغلق عيني وتهدّدني بالموت والجحيم وباللعنة الأبدية".

واليوم، ونحن مدعوون إلى الشهادة لقيامة السيّد، بأي أبدية نبشر لأمثال مونك؟؟؟

حقيقةً أن "البشارة" هي في رحمة الربّ الذي يقدّم لنا نفسه الطريق والحق والحياة ويعلن: "أمّا أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو 10:10)... ولكن هذا طبعاً لا ينفي وجود جهنم!

ولمن يتساءل كيف أنّ الرب صاحب القلب الرحوم يسمح بأن ينتهي بعض أبنائه في الجحيم، يمكن القول: أن وجود السماء يفترض وجود "لا- سماء"! وإذا كانت هدية الرب الثمينة لكل منا هي الإرادة الحرة، إذاً يمكننا أن نستعملها أو نستغلها.

ولنفهم أننا نحصد ما نزرع، فإذا أخترنا الظلمة لن نرى النور. إذاً ليس الله بقلبه المحب من يرسل الناس إلى الجحيم، ولكن الأفراد أنفسهم يختارون أن يديروا ظهورهم للنور، فماذا نتوقع أن يروا؟ أليس الظلال؟!... 

إنّ محبة الله لنا أجمعين ودون تفرقة هي ثابتة أبداً... يبقى أن هذه المحبة بالذات، كما هي نعيم الأبرار، تصبح نار جحيم للأشرار.

 يستعمل هنا أحد المفكرين المسيحييين تشبيهاً مبسطاً خفيف و لكن حقيقي: يقول أنّه عندما تسطع محبة الله ونوره أمام محبيه ومبغضيه، يصبح الأمر شبيهاً بحفل موسيقى أوبرالية، حيث تصدح الأصوات عالياً: للبعض تكون سماوية فيما للآخرين هي مصدر إزعاج لا يطاق... الجحيم هو قرارنا. قرار يؤلم قلب الخالق الرحيم الذي ترك ال99 ليبحث عن الخروف الضال. وحتى نسبة الواحد في المئة ضالة تؤلمه وتحرّك أحشاءه... ولكنه أعطى هدية الخيار الحّر التي بدونها لا محبة حقيقية... وهو لن يستعيد الهبة هذه.

هذا هو السبب في أن التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يحذرنا من سلوك دروب الخطيئة المميتة دون التوبة فهي درب الجحيم.

ولكن...

ليس المطلوب أن تتحوّل "البشارة" الى إرهاب نفسي حيث نار الجحيم تغلب نار الحب الالهي و لا هو سليم أن نركز على حقيقة الجحيم بحيث نجعل من نارها أنواراً تطفىء أنوار القيامة.  

صرخة مونك "الصامتة "، التي تباع بملايين الدولارات اليوم،  لا تزال صرخة غالبية من بيننا... لم تجد السيد وتخاف "ملائكة الموت تهدد بالجحيم واللعنة الأبدية":

فلنكن شهود قيامة نقدم الحقيقة التي هي يسوع – كلمة الله الخالقة – ونعم: نحذرّ من مزالق تؤدي إلى مصير الهلاك ولكن بالأكثر هلّم نكون أصوات نعمته التي وحدها قادرة أن تحوّل القلق إلى فرح وصمت الموت إلى هتاف الحياة!!