عظات
٩‏/١‏/٢٠١٧ زمن العنصرة | الأب بيار نجم ر.م.م

أحد الثالوث الأقدس

تحتفل الكنيسة المارونيّة بأحد الثالوث الأقدس، وإذا تأملّنا في موضع هذا الأحد من الناحية اللّيتورجيّة، نجد أنّه أحد قمّة الأسرار اللاهوتيّة التي نتأمّل فيها طوال السنة، فبعد الآم الرّب وقيامته، ظهوره للتلاميذ وإرسالهم لهم للتبشير، صعوده إلى السماء، نصل إلى أحد الثالوث الأقدس.

(متى 28 /16-20)

وأَمَّا التَّلاميذُ الأَحَدَ عَشَر، فذَهبوا إِلى الجَليل، إِلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه. فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا. فَدَنا يسوعُ وكَلَّمَهم قال: "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض. فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس، وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به، وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم".

إن الثالوث الأقدس هو السرّ المحوريّ للإيمان المسيحيّ وللحياة المسيحيّة. هو سرّ الله في ذاته، وبالتالي فهو يشكلّ مصدر أسرار الإيمان الأخرى وعلى ضوئه تتّضح الأسرار الأخرى. كلّ قصة الخلاص هي قصّة تجلّي الله الحقيقيّ والواحد: الآب والإبن والرّوح القدس، الّذي يصالح معه من انفصل عنه بالخطيئة ويضمّهم إليه. (راجع تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، 234).

مهما حاولنا لن نستطيع أن ندرك سرّ الثالوث الأقدس بواسطة قوانا العقليّة وحدها أو بواسطة المنطق، "فالإنسان الّذي يحاول معرفة الله على ضوء العقل وحده سوف يصطدم بصعوبات جمّة.  إذ لا يمكنه أن يدخل في حميميّة السرّ الإلهيّ. لقد أراد الله إنارة سعيه موحياً اليه، ليس فقط حقائق تتخطّى قدرة الإنسان على الفهم، إنّما أيضاً موحياً إليه حقائق دينيّة وأخلاقيّة. (راجع مختصر تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، 4).

معنى العقيدة:

كلمة ثالوث هي العبارة التي استعملتها المجامع المقدّسة والآباء القديّسين للتعبير عن العقيدة المحوريّة في الدين المسيحيّ، أي الإعلان عن الإيمان بإله واحد في ثلاثة أشخاص: الآب، الإبن والرّوح القدس.  يقول القدّيس أثناسيوس الإسكندريّ: "الآب هو الله، والإبن هو الله، والرّوح القدس هو الله، ورغم هذا لا وجود لثلاثة آلهة إنّما إله واحد". الآب ولد الإبن، والروح انبثق من الآب بالإبن، إنّما هذه الولادة لم تتم في الزمن، وانبثاق الرّوح لا يعني أنّ الروح قد جاء بعد الآب من ناحية الوجود. منذ البدء كانت الأقانيم (الأشخاص) معاً، تشترك في الجوهر الإلهي  وفي الطبيعة الإلهيّة رغم اختلاف الأقانيم.

هذا هو سرّ الإيمان: كيف يمكن أن نفهم حقيقة أن الله هو إله واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة أقانيم؟ كيف نفهم حقيقة الإتّحاد الجوهري واختلاف الأشخاص؟ كيف نفهم أن الآب قد ولد الإبن دون أن يكون سابقاً له في الزّمن أو أكبر منه من ناحية الألوهة؟ هو سرّ يتخطّى قدرة عقلنا على احتوائه، نؤمن به، ونسعى الى فهمه بالقدر الّذي أُعطي لعقلنا أن يفهمه.

يخبر التقليد المسيحيّ القديم قصّة جرت مع القدّيس أغوسطينوس. بينما كان هذا القدّيس اللاّهوتيّ سائراً على شاطيء البحر يفكّر في سرّ الثالوث، رأى طفلاً يأخذ من مياه البحر في صَدَفَةٍ صغيرة ويضع المياه في حفرة صغيرة حفرها. حين سأله القديّس عمّا كان يفعله أجاب الطفل: "أضع البحر في الحفرة"، فضحك القدّيس مدركاً العلامة الإلهيّة: لهو أسهل أن يوضع البحر في حفرة صغيرة من أن يُدرك سرّ الثالوث بواسطة عقل الإنسان.

إنّما أذا أردنا أن نفتّش عن تشابيه تساعدنا على أن نفهم ولو قليلاً سرّ الثالوث الواحد والثلاثي الأقانيم، نفكّر في الإنسان نفسه: جسم وروح ونفس، كلّ عنصر منها مختلف عن الآخر، إنّما يبقى الإنسان واحداً لا ثلاثة، ولا وجود للإنسان دون واحد من العناصر.

الإنسان الّذي يدخل في علاقة مع الآخر هو صورة للثالوث أيضاً: يخاطب بالكلمة. الكلمة تخرج من العقل بشكلها النظريّ، وتضحي "ملموسة" بواسطة الصوت. هذه العلاقة لا وجود لها دون واحد من هذه العناصر، لأنّ هذه العناصر الثلاثة تتّحد معاً فتُخلق العلاقة، وفي غياب واحد منها يكفّ التواصل، إنّما هي في الوقت عينه عناصر متمايزة، لكلّ منها وظيفة محدّدة.

الشمعة المضيئة ظلام ليلنا تعكس أيضاً سرّ الثالوث: النار والنّور والحرارة. لا وجود لعنصر دون الآخر، ولا وجود للشمعة دون واحد من هذه العناصر. لكلّ عنصر وظيفته، وكلّ عنصر متمايز عن الآخر، إنّما متّحدة كلّها بالطبيعة الماديّة ذاتها.

هي كلّها أمثال ملموسة، ماديّة، غير قادرة على إيفاء السرّ حقّه.

رغم أن عبارة "الثالوث" هي عبارة مجمعيّة وكنسيّة لا ترد في العهد الجديد، إلاّ أن حقيقة الثالوث الأقدس قد تجلت عبر عمل الأقانيم الإلهيّة في تاريخ الخلاص، والّتي نستشفّها من خلال الاناجيل الأربعة الأربعة.

فمن الفصل الأوّل من إنجيل يوحنّا نعرف أنّ الكلمة التي كانت منذ البدء مع الآب، والتي هي الله، قد تجسّدت. الكلمة الأزليّة، الإبن المساوي لله في الجوهر لأنّ "الكلمة كان الله" و"الكلمة هو الله" قد صار المسيح المتجسّد "الكلمة صار لحماً وحلّ بيننا".

والمسيح نفسه أعلن عن ذاته لفليبّس أنّه والآب واحد، واحد لا من ناحية الشخص، لأنّ الآب لم يتجسّد، بل من ناحية الطبيعة الإلهيّة الواحدة. "إنا في الآب والآب فيّ" (يو 14، 10): هما واحد من حيث الطبيعة، من حيث الجوهر، من حيث الآزليّة ومن حيث الكرامة. وهي حقيقة رفضتها بعض البدع في الكنيسة الأولى، مثل الآريوسيّين الّذين رفضوا مساواة الإبن بالآب، بل اعتبروه مخلوقاً وسيطاً بين الله والإنسان، وهي بدع أعاد تكوينها اليوم أتباع شهود يهوه.

"من رآني قد رأى الآب" يقول أيضاً يسوع لفليبّس، الطالب رؤية الآب ليؤكّد إيمانه، فالمسيح هو إيقونة الآب، أي الشخص الّذي أظهر للعالم وجه الآب الرحوم وهويّته، هو ليس واحداً معه من حيث الأقنوم، فهما متمايزان كأشخاص، إنّما من ناحية الطبيعة الإلهيّة، ومن ناحية الإرادة التي لا تمتزج إنّما هي في تناغم دائم وأبديّ، إرادة الآب التي تجلّت في عمل الإبن: إرادة الله في خلاص البشريّة.

والروح القدس قد تجلّى في العهد الجديد كروح الله وروح المسيح، هو مساوٍ لهما لأنّه روحهما. ولا يجب أن نفهم أنّ الروح القدس، لأنّه روح الآب فهو الأب نفسه، بل هو ينبثق من الآب كأقنوم متمايز ومساوٍ للآب في جوهره. وهو روح المسيح لأنّه عطية الآب من خلال الإبن وبواسطته.  إنبثق منذ الآزل من الآب بالإبن، وأُعطي الى الكون ولا يزال يحرّك الكنيسة كعطيّة الآب لها من خلال الإبن الّذي فداها وترك لها الروّح كباراقليط، كمعلّم ومرشد ومعزٍّ آخر يقودها في سعيها نحو بيت الآب ليشارك الإنسان المنتصر في علاقة الحبّ الثالوثيّة الأبديّة.

شرح النّص:

وأَمَّا التَّلاميذُ الأَحَدَ عَشَر، فذَهبوا إِلى الجَليل. 

يشير متىّ إلى عدد التلاميذ، لقد نقصوا واحداً، فيهوذا لم يعد موجوداً بعد خيانة الرّب. هو جرح الكنيسة لا يزال مفتوحاً مؤلماً، هو جرح الخيانة، جرح ترك التلميذ لرّبه واستبداله بفضّة الأرض وغناها العابر. إنّما التلميذ الناقص هو الدليل على وفاء الرّب لكنيسته، لم يستبدلها، لم يبدأ من جديد، لم يفتّش عمّن هم أكثر كمالاً أو شجاعة أو قوّة.  يكمل الرّب مغامرة الحبّ مع التلاميذ أنفسهم، هم الّذين أنكروه وهربوا. لقد عاد ليكمل معهم، لأنّه الوفيّ الدائم، ولأنّه يثق فينا، رغم الخيانات المتكرّرة ورغم الخوف الّذي يلفّ قلوبنا. عاد ليكمل معهم لأنّه قادر على تحويلهم إلى صورته إن هم استسلموا بين يديه واثقين به. هو حال كلّ واحد منّا، نخون الرّب كلّ يوم، نفتّش عن السهل، نسلّم الرّب بين أيدي من يريدون قتله، ونهرب، نختفي في عبثية هذا الوجود وفي ليل لهوه ولذّته، نهرب مفتّشين عن الحلول السهلة، لأنّ اختيار يسوع يتطلّب التزاماً وسهراً وتضحيات.  نهرب فنجده دوماً بانتظارنا، يفتّش عنّا، ويبدأ معنا من جديد، يقودنا كلّ يوم إلى الجليل، حيث وُلدت علاقتنا به وتتلمذنا له.

لقد توجّه الرسل إلى الجليل كما أمرهم سابقاً الرّب يسوع (ولكِن بعدَ قِيامتي أَتَقَدَّمُكم إِلى الجَليل 26، 32) وكما طلب إليهم الملاك في القبر ساعة اكتشاف الرسل للقيامة (28، 7. 10).

إنّ العودة إلى الجليل هي ذات معنى رمزيّ ولاهوتيّ لا ينفصلان عن حياة الرسول وعن دعوة الكنيسة.

- الجليل هو مكان اللّقاء الأوّل مع يسوع، حيث سمع التلاميذ دعوة يسوع لهم لإتّباعه ولبّوا الدعوة. عودتهم إلى الجليل بعد القيامة للقاء الرّب هي عودة الرسول إلى الحبّ الأوّل بعد الخيانات المتعدّدة، وبعد أيام الشكّ والقلق وفقدان الرّجاء. يسوع يدعوهم للقائه خاصّة في جليل حياتهم الشخصيّة، أي لأنْ يعودوا إلى صداقتهم الأولى لهم، إلى محبّتهم غير المشروطة لشخصه وللتكرّس العميق في نمط حياة جديدة يدعوهم إليها، أي أن يكونوا رسلاً يبشّرون بإنجيله.

- ومن الناحية اللاّهوتيّة، العودة إلى الجليل هي رمز ذو بُعدٍ لاهوتيّ، يدخل الكنيسة بأسرها في عمل المسيح الخلاصيّ كاستمراريّة لعمله وكوسيلة لنشر إنجيله. فالجليل في العهد القديم هو "جليل الأمم"، مكان الّلقاء مع الحضارات الأخرى والتقاليد الغريبة والديانات الوثنيّة. عودة الرسل إلى الجليل هي انطلاق الكنيسة في عملها التبشيريّ، تنطلق لا من هيكل أورشليم، محور وجود الشعب المختار القديم، بل من جليل الوثنيّين، حيث  "أَبصَرَ الشَّعبُ المُقيمُ في الظُّلْمَة نُوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقْعَةِ المَوتِ وظِلالِه أَشرَقَ عليهمِ النُّور"  كما أعلن أشعيا النبيّ. وهذه الإشارة إلى الجليل وأهميّته من ناحية الإعتلان المسيحانيّ قد سبق ومهّد لها متّى (مت 4، 14-17)، تمهيداً لحقيقة تجد تمامها في هذا النّص الختاميّ من الإنجيل. في متّى 4 بدأ يسوع بإعلان الملكوت، وفي متّى 28 تستلم الكنيسة هذه المهمّة كأداة استمرار لعمله الخلاصيّ.

إلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه

لسنا نعلم عن أي جبل يتكلّم متّى، إذ لم يسبق الكلام عن جبل محدّد في الجليل دعاهم الرّب للعودة إليه بعد القيامة. هو بحسب التقليد جبل طابور مكان التجلّي، إنّما هو بنوع خاصّ الجبل اللاهوتيّ، أي مكان الإرتفاع عن الواقع الماديّ.  يستعمل متىّ رمز الجبل حين يتكلّم على أحداث ذات بعد لاهوتيّ عميق، فالجبل كما قلنا هو مكان التجلّي كوحيد الآب الحبيب (17، 5)، وعلى الجبل علّم الرّبُ الجموع (5-7)، وفي بداية حياته العلنيّة قاده الشيطان إلى جبل عالٍ ليجرّبه بممالك الأرض التي هي أدنى من الجبل، ومن هذا نستشف أنّ الجبل يرتبط لاهوتيّاً بالمكان المرتفع المتعالي عن ممالك الأرض كلّها، عن المادة العابرة (4، 8-10) والآن يعود التلاميذ إلى الجبل ليسجدوا له. يتكلمّ عن الآب والروح القدس فوق الجبل.

لا يمكننا أن نفهم سرّ الثالوث إلاّ إذا صعدنا إلى جبل الإيمان، فبالإيمان نقبل حقيقة العقائد الموحاة، ليس قبولاً خانعاً بل خضوعاً مستنيراً بالثقة، بالحبّ الإلهيّ، بالصداقة الإلهيّة وبالسعي إلى الفهم على ضوء العقل أيضاً، بالقدر الّذي يمكن لعقلنا قبوله.

فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا. ملفتة للنظر هذه الإشارة السريعة إلى ريبة بعض التلاميذ في حقيقة ما أو من يرون، فالكاتب لا يحدّد هويّتهم والمسيح لا يعطيهم أيّة علامة ليؤمنوا. كأنّها عبارة سقطت سهواً لأنّ يسوع يتكلّم إلى الجميع دون تمييز بين مؤمن ومرتاب، يوجّه إليهم جميعاً دعوة الإنطلاق لإعلان الإنجيل. لا، لم تسقط سهواً هذه العبارة، ومتىّ لم يتجاهل تسمية المرتابين. هي رسالة توجّه إلى كلّ تلميذ مؤمن بالمسيح، في كلّ زمان ومكان، يجد ذاته في هذا النّص. ففي كلّ واحد منّا شخص المؤمن الساجد على الجبل وشخص المرتاب الحائر لا يفهم هويّة الشخص القائم أمامه. هذا الواقع هو من صلب إيماننا، نحن نسجد ونحبّ، ولن نصل أبداً إلى اليقين النهائيّ في وجودنا هذا لأنّ حقائق الثالوث تتخطي قدرتنا على الفهم.  هي دعوة للتلاميذ للإيمان، للثقة في كلمات يسوع، وفي ترجيّ يوم اللّقاء النهائيّ معه في علاقة الحبّ الثالوثيّة، حين نعاين الله وجهاً لوجه ونفهم ولو القليل من حقيقة لاهوته، لاهوت لا قدرة للعقل البشريّ على سبر أعماقه.

فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم هذه الدعوة التي يوجّهها الرّب للتلاميذ تكمل دعوته إيّاهم للعودة إلى الجليل، إلى مكان الدعوة الأولى. دعوتهم ليست شخصيّة بل بهذه الكلمات صار هدفهم كونيّاً. لا يمكن للتلميذ الّذي عاين قيامة الرّب أن يقيّد هذه الحقيقة ضمن حدود شخصه وحياته، أو مجتمعه الضيّق أو شعبه الخاص. الدعوة المسيحيّة للتبشير هي دعوة لتخطيّ الأنانيّة والإنغلاق على الذّات وللإنطلاق نحو الآخر والاّ تضحي الحياة المسيحيّة شبيهة بنادٍ خاصّ يجمع قلةّ نخبويّة أو اثنيّة مميّزة. التبشير يعني الإنطلاق إلى المختلف المتمايز، والدخول في علاقة معه، وبهذا المعنى تصبح البشارة صورة للعلاقة الثالوثيّة، إرتباط بالحبّ رغم اختلاف الأقانيم، والدخول في علاقة تعطي كلمة الحياة كما دخل الآب في علاقة مع الوجود حين أخرجه من العدم من خلال كلمته، الإبن، الّذي أعطانا الرّوح معزّ ومرشد. التبشير بإنجيل الرّب يجد مثاله في الثالوث الأقدس، هو عمل حبّ يجعل الكائن ينطلق من داخليّته ليعتلن، يخرج من صمت الجوهر إلى الحقيقة العلائقيّة التي تجعله يرتبط بالآخر في رباط الحبّ الّذي هو الرّوح القدس.

من المستحيل أن يكون المسيحيّ المؤمن بالقيامة وبالثالوث منغلقاً على ذاته، جامداً غير متحرّك، فدعوة المسيحيّ الحركة، الإنطلاق إلى الآخر في علاقة حب دائمة، على صورة الثالوث المنطلق دوماً: الآب ينطلق أبدياً نحو الإبن بالحب، والإبن مستجيب ومنطلق أبديّاً نحو الآب بالحب، ورباط الحبّ السرمديّ هذا الّذي يجمع الأقنومين هو الرّوح القدس، المساوي لهما بالجوهر والمتمايز عنهما بالأقنوم. رباط الحبّ الإلهيّ، الروح القدس، ليس موجوداً كعاطفة بين الآب والإبن، بل هو حبّ قائم بذاته وإن وجد مصدره في حبّ الآب للإبن وللوجود. هو الحبّ الموجود منذ الآزل مع الآب وفي قلب الآب، وينبثق إلى الأبد في علاقة أبديّة بين الآب والإبن. هو روح يعطيه المسيح إلى نهاية الأزمنة لكنيسته يقودها ويعلّمها ماذا تقول، وهو يبقى إلى الأبد ربّاً مساوٍ للآب وللإبن، يحق له الإكرام نفسه، يسجد ويعبد معهما ومساوٍ لهما بالطبيعة.

"عمّدوهم باسم الآب والإبن والرّوح القدس" يقول متّى في انجيل الأحد هذا، وكلمة باسم اليونانيّة (eis to onoma) بصيغة المفرد، لا بأسماء الآب والإبن والروح القدس، لأنّها كلّها تشترك في المجد الواحد، في الطبيعة الإلهيّة الواحدة، دون أن تمتزج بشخص واحد، بل لكّل من الأقانيم الإلهيّة دوره وكيانه المتمايز، إنّما في اتحاد الطبيعة الإلهيّة وفي مساواة المجد والكرامة.

وحين نقول أنّ لكلّ أقنوم وظيفته، نقصد أنّ لكلّ شخص من الثالوث الأقدس دوراً في إخراج الكون من العدم إلى الوجود، وفي تحقيق مخطّط الخلاص الإلهيّ.  فالآب هو الخالق، الّذي أخرج الكون من العدم بكلمته، قائلاً: فليكن، والكلمة هي الإبن الّذي بواسطته انصاع الكلّ لأمر الآب وخرج إلى الوجود، وروح الله كان يرفرف فوق مياه الغمر العظيم، لأنّه هو الّذي يملأ الكون بمجد الله ويعطي الوجود صورته.

والآب هو الّذي وعد الإنسان بالخلاص وبالعودة إلى علاقة الحبّ الإلهيّة، والإبن هو الفادي، الّذي تمّم مشيئة الله بتجسّده وموته وقيامته، والرّوح القدس هو الّذي أسلمه الرّب يسوع لأبيه حين مات على الصليب، وأعاد إعطاءه لكنيسته كمعزّ يقودها ويعلّمها، ويعلّم التلاميذ ماذا يقولون.

الرّوح، روح الله، هو عطية المسيح لكنيسته، يعلن لها الأسرار التي يعلمها الله وحده، بالإلهام الإلهي، يوحي للكنيسة حقيقة الله والتعاليم الأدبيّة، التي هي تطبيق لإرادة الله في الحياة اليوميّة (1قور 2، 10). هو الّذي يوزّع المواهب (1قور 12، 11)، هو الّذي يعطي الإنسان الحياة الإلهيّة الفائقة الطبيعة وينتشله من الحياة فاقدة المعنى، فلا يبقى عائشاً على النطاق الجسديّ، بل يكتسب وجوده معنى أعمق، معنى يسمو الوجود الطبيعي (2قور 3، 8)، هو الّذي يسكن في كنيسته ويجعل من جسد الإنسان هيكلاً للرّب (روم 8، 9-11؛ 1قور 3، 16)، وفي عمل الخلاص الإلهيّ، الّذي أراده الآب وتمّمه الإبن يحقّق الرّوح عمل التبرير من الخطيئة، أي أنّه يعيدنا إلى نقاوة الحالة الأولى ويجعلنا أهلاً للمشاركة في علاقة الحب الثالوثيّة (1قور 6، 11؛ روم 15، 16).

وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم: تعبّر هذه الكلمات عن دور الكنيسة وغاية وجودها. هي وسيلة إيصال التعليم الّذي أخذته من الرّب يسوع والمحافظة عليه دون تحريف أو خيانة. واجب الكنيسة هي أنْ تجعل أبناءها يحافظون على تعليم لم يقتبلوه من المسيح شخصيّاً. المسيح علّم الرسل، وواجب الرسول إيصال تعليم المسيح إلى الأمم ومساعدتهم على المحافظة عليه. هذا الأمر نؤمن أنّه يحصل يوميّاً عبر الكنيسة، التي تعلّم وتصحّح وتراقب وترافق. هي الأداة التي أرادها الرّب في العالم الحاضر وسيلة استمراريّة له شخصيّاً، لذلك نؤمن بالكنيسة، لا كمجموعة اشخاص يتشاركون المعتقد ذاته، بل كجسد المسيح الّذي يجمع فيه البشريّة بأسرها، اقتبلت تعليمها لا من البشر إنّما من الربّ يسوع، ولا تزال محافظة عليه عبر القرون دون تحريف أو تأويل.  تحافظ عليه لا بقوّة البشر الّذين يشكّلون أعضاءها، بل بقوّة الرّاس الّذي هو يسوع ذاته، الرأس المقدّس الّذي لا يزال يقوها مرافقاً إيّاها، ولن يكفّ عن مرافقتها حتى نهاية العالم. يسوع المرافق، الرّاعي والمرشد هو ضمانة حقيقة التعليم الّذي تعلنه الكنيسة وتؤمن به. هي علامة حضور الرّب في التاريخ وأداته لإيصال الخلاص في عالم اليوم.

هذه الكنيسة التي ولدها الإبن من جنبه المطعون على الصليب قد شاءها الآب واحبّها كوسيلة لإتمام إرادته الخلاصيّة، وهي تسير إليه، حاملة ابناءها نحوه ليشاركوا، إن حافظوا على التعليم الصحيح، في ملكه السماويّ. دليلها ومرشدها هو الرّوح القدس الّذي يلهمها وينيرها لتعطي التعليم الحقّ دون خطأ أو ضلال. إيماننا بالكنيسة يقوم لا على ثقتنا بالبشر الّذين يكّونون جسدها، بل على عمل الثالوث الّذي أرادها وأسّسها ولا يزال يقودها وينيرها لتعلن للبشريّة كلّها إنجيل الخلاص وتصل بها الى المشاركة في الملك السماويّ.

 

تأمّل:

إن عقلنا لن يصل أبداً إلى إدراك سرّ الثالوث الأقدس، لأنّ المحدود لا يمكنه احتواء غير المحدود، والأزليّ لا يسعه عقل مرتبط بالزمان والمكان إدراك حقيقته الأزليّة. رغم هذا يمكننا معرفة الثالوث، والدخول في أعمق أسرارها. فمن قال أنّ المعرفة هي معرفة العقل والإدراك هو فقط إدراك اليقين الملموس؟ المعرفة الحقة هي معرفة الحبيب لحبيبه والعروس لعروسه والأمّ لإبنها. الحب هو أسهل الوسائل لمعرفة جوهر الله، فجوهر الله محبّة لأنّ الله محبة كما يقول يوحنّا في رسالته. من يحبّ يعرف، لا معرفة العالِم والمُختبِر بل معرفة الواثق والمرتجي. الأمّ تحبّ ابنها لا لأنّها تعرفه بكافّة ابعاده، تحبّه ليس لخصاله ومميّزاته، تحبّه لا لأنّها تلمس عمق جوهر وتعلم علم اليقين أنّه جيد وصالح، لا لأنّها تعلم من أين أتى وإلى أين يذهب. فهي لا تعلم هذه الأشياء كلّها، ليست تدري اي مستقبل سوف يكون لابنها وليست أكيدة كيف سوف ينتهي به المطاف، رغم هذا تحب. المحبّة لا شروط فيها، لا تطلب مقابلاً ولا تسعى إلى معرفة علميّة.  معرفة الله هي أنّ أحبّه، فالمحبّة هي أنْ أحيا عمليّاً ما هو الله بجوهره، بالحبّ أشارك الله في حقيقة وجوده، دون أن أفهم فهماً كاملاً معني ثُلاثية الأقانيم في الإله الواحد، وكيفية انبثاق الروح وولادة الإبن، دون أن أفهم كيف يمكن للإبن أن يكون مولوداً من الأب وأزليّاً في الوقت عينه.  حين أجعل حبّ الثالوث يأتي في المكان الثاني بعد رغبتي في الفهم العقلي، أدخل في متاهات الإنقسام والجدليّة، يصبح الثالوث، مصدر كلّ وحدة وحبّ، هو وحدة الآب والإبن بالروح القدس، مصدر تفرقة وقسمة. حين أحب أثق، وأؤمن، وأعلم أن الربّ سوف يكشف ذاته لي بقدر ما أحببته، فأعرفه لأنّي أحبّه، لا أحبّه لأنّي أعرفه.

حبّ الثالوث لا بدّ أن يتجلّى في حياتي اليوميّة كمؤمن اعتمد باسم الثالوث الأقدس، فأنا الّذي اعتمدت باسم الآب والإبن والرّوح القدس صارت هويّتي الثالوث الأقدس، وصرت عاملاً باسمه وعلى مثاله.

علاقتي مع ذاتي لا بدّ أن تكون ثالوثيّة، أعرف ذاتي وأقبل عطايا الله لي في الشّخص الّذي صرته بنعمة من الله. وعلاقتي مع الآخرين لا بدّ أن تكون ثالوثيّة معطاءة: فالآب يهب الإبن ذاته أزليّاً، والإبن يهب الآب ذاته أزليّاً، والرّوح القدس يكوّن منذ الأزل وإلى الأبد علاقة العطاء هذه.  الأب والإبن يرتبطان بعلاقة حبّ لا تنتهي، علاقة اسمها الثالوث ورباطها الرّوح القدس. علاقتي بالآخرين لا بد أن يكون رباطها الرّوح القدس ومحورها الحبّ ووبذل الذّات.

عائلتنا لا بدّ أن تكون ثالوثيّة، أي أنْ يتجلّى فيها حبّ الثالوث من خلال حبّ الزوجين، فيكون حبّهما، على مثال حبّ الآب والإبن، خصباً يعطي الحياة، كما أعطى الآب بالإبن روح الحياة للعالم. صداقاتنا لا بدّ أن تكون ثالوثيّة، مجتمعنا وعالمنا لا بدّ أنْ يقبل منطق الثالوث في داخله لتكون له الحياة، ومنطق الثالوث هو منطق الوحدة رغم الإختلاف، على مثال وحدة الثالوث بالطبيعة رغم اختلاف الآب عن الإبن والرّوح بالأقانيم. صعب هو فهم سرّ الثالوث، وسهل عيش حقيقته، حين أحبّ أعرف عمق الثالوث لأنّي أحيا جوهر الثالوث، فجوهر الثالوث محبّة.