عظات
٥‏/٧‏/٢٠١٧ زمن العنصرة | الأب بيار نجم ر.م.م

الأحد الخامس عشر من زمن عنصرة

موقع النّص في الإنجيل

في الفصل السابع من إنجيل لوقا، نجد التشديد على ماهيّة الإيمان وكيفيّة قبوله كنعمة من الله: في كفرناحوم يمدح الرّب إيمان الرجل الغريب عن شعب الله: "لم أرى هكذا إيمان في إسرائيل" (٧، ١-١٠). أمّا في نائين فقد أقام من الموت وحيد الأرملة بسبب إيمان الأمّ (٧، ١١-١٧). هذه الأعمال كانت سبباً لكيما يرسل يوحنّا المعمدان رسلاً يسألون يسوع إن كان هو مسيح الله (٧، ١٨-٣٠). وانتقد الرّب عدم ثبات البعض في إيمانهم من خلال تشبيههم بمن يرقصون في الشوارع، يفرحون حيناً ويحزنون أحيانا (٧، ٣١- ٣٥). وفي ختام هذا الفصل السابع، نجد يسوع أمام نوع جديد من إعلان الإيمان، يتواجه خلالها المتديّن والخاطئة، الفريّسي والزانية، حافظ الناموس ومخالفته، التقيا وكان يسوع سبب لقائهما.

(لوقا 7: 36 - 50)

سَأَلَ وَاحِدٌ مِنَ الفَرِّيسيِّينَ يَسُوعَ أَنْ يَتَناوَلَ الطَّعَامَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ الفَرِّيسيِّ واتَّكَأ. وإِذا امرَأَةٌ، وَهِي الَّتِي كانَتْ في الـمَدينَةِ خَاطِئَة، عَلِمَتْ أَنَّ يَسوعَ مُتَّكِئٌ في بَيْتِ الفَرِّيسيّ، فَجَاءَتْ تَحْمِلُ قَارُورَةَ طِيب. وَوَقَفَتْ بَاكِيةً وَراءَ يَسُوع، عِنْدَ قَدَمَيْه، وَبَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيهِ بِالدُّمُوع، وتُنَشِّفُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وتُقبِّلُ قَدَمَيْه، وَتَدْهُنُهُمَا بِالطِّيب. وَرأَى الفَرِّيسِيّ، الَّذي دَعَا يَسُوع، مَا جَرَى، فَقَالَ في نَفْسِهِ: "لَوْ كانَ هـذَا نَبِيًّا لَعَلِمَ أَيَّ امرَأَةٍ هِيَ تِلْكَ الَّتي تَلْمُسُهُ! إِنَّهَا خَاطِئَة". فَأَجَابَ يَسوعُ وَقَالَ لَهُ: "يا سِمْعَان، عِنْدِي شَيءٌ  أَقُولُهُ لَكَ". قالَ الفَرِّيسِيّ: "قُلْ، يَا مُعَلِّم". قالَ يَسُوع: "كانَ  لِدَائِنٍ مَدْيُونَان، أَحَدُهُمَا مَدْيُونٌ بِخَمْسِمِئَةِ دِينَار، والآخَرُ بِخَمْسِين. وإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ما يُوفِيَان، سَامَحَهُمَا كِلَيْهِمَا. فأَيُّهُما يَكُونُ أَكْثَرَ حُبًّا لَهُ؟". أَجَابَ سِمْعَانُ وَقَال: "أَظُنُّ، ذَاكَ الَّذِي سَامَحَهُ بِالأَكْثَر". فَقَال لَهُ يَسُوع: "حَكَمْتَ بِالصَّوَاب". ثُمَّ التَفَتَ إِلى الـمَرْأَةِ وَقالَ لِسِمْعَان: "هَلْ تَرَى هـذِهِ الْمَرْأَة؟ أَنَا دَخَلْتُ بَيْتَكَ فَمَا سَكَبْتَ عَلى قَدَمَيَّ مَاء، أَمَّا هِيَ فَقَدْ بَلَّتْ قَدَمَيَّ بِالدُّمُوع، وَنشَّفَتْهُما بِشَعْرِها. أَنْتَ لَمْ تُقَبِّلْنِي، أَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ قَدَمَيَّ. أَنْتَ مَا دَهَنْتَ رَأْسِي بِزَيْت، أَمَّا هِيَ فَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ قَدَمَيَّ. لِذـلِكَ أَقُولُ لَكَ: خَطايَاهَا الكَثيرةُ مَغْفُورَةٌ لَهَا، لأَنَّها أَحَبَّتْ كَثيرًا. أَمَّا الَّذي يُغْفَرُ لَهُ قَليلٌ فَيُحِبُّ قَلِيلاً". ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَة: "مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطايَاكِ!". فَبَدَأَ الـمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ في أَنْفُسِهِم: "مَنْ هُوَ هـذَا الَّذي يَغْفِرُ الخَطايَا أَيْضًا؟". فَقالَ يَسُوعُ لِلْمَرْأَة: "إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام!".

الإطار التاريخيّ للنّص:

لقد كانت النساء في الشرق الأوسط القديم عموماً تحيا على هامش المجتمع، محرومة من حقوق نعتبرها نحن اليوم حقوقاً طبيعيّة. لم تكن تشارك في حياة المجمع الرّوحيّة، ولم يكن لها دور في التبشير وفي إعلان كلمة الله. يسوع سوف يغفر لها، ولكن أهم ما في المغفرة هو أنّه سوف يعيد هذه الإمرأة، ومن خلالها كلّ النساء، الى جماعة شعب الله. لذلك أورد لوقا بعد هذا النّص مباشرة ذكر النساء الّلواتي شاركن في خدمة البشارة ونشر كلمة اُلإنجيل. 

أمّا إذا ترمّلت الزوجة، ولم تكن من الطبقة الميسورة، فكانت توشك الموت جوعاً هي وأطفالها، وما من مورد رزق سوى التسوّل، أو بيع جسدها للآخرين. لذلك شدّد أنبياء العهد القديم على ضرورة إعانة اليتيم والأرملة.

قد تكون هذه الإمرأة واحدة من كثيرات وجدن أنفسهنّ تحت رحمة المجتمع القاسي، فانتقلت من عزلة كونها امرأة فقيرة وأرملة، الر عزلة حكم المجتمع. لقد صارت مومساً تبيع جسدها لتشري حياتها وحياة أولادها. 

أمّا سمعان الّذي استضاف الرّب فكان فرّيسياً، يمثّل الشريعة ويطبّقها بحذافيرها، يحتقر المومس، يخاف نجاستها وينتظر ساعة أخذها بالجرم المشهود ليكون أوّل الراجمين.

وكانَ في المدينةِ ا‏مرَأةٌ خاطِئَةٌ

لا يذكر الإنجيليّ اسم المرأة، بل اكتفى بالصفة، صفة لطالما آلمتها وسبّبت بعزلها وتهميشها. لقد فقدت المرأة هويّتها الحقيقيّة والجوهريّة، وصارت الخطيئة هويّتها في عين الجميع. يتعاطون معها كخاطئة، صارت دون كرامة، ألغيت قيمتها ككائن بشريّ، صارت "خاطئة المدينة". الكلّ يستعملها ويحتقرها، يشتهي جسدها ويقتلها بنميمته.

لم يذكر اسمها لأنّها تمثّل خطأة عالم اليوم: إخوة لنا وأخوات نحتقرهم، نحكم عليهم، نلغي عنهم صفة الإنسان ونلصق بهم صفة الخاطئ والخاطئة، نضعهم على هامش حياتنا، نخاف نجاستهم وقلوبنا في الواقع مليئة نجاسة: نجاسة النميمة وإطلاق الأحكام والدينونة. ننسى أن الله يحبّ الخاطئ "لا يريد موت الخاطئ بل أن يعود عن دربه الشرّيرة فيحيا". الرّب يريد خلاص الإخوة ونحن لا نتوانى عن قتلهم كلّ يوم بكلامنا وبدينونتنا.  

عَلِمَت أنَّ يَسوعَ يأكُلُ في بَيتِ الفَرِّيسيِّ، فجاءَت

لقد بدأت تظهر علامات الإيمان في حياة الخاطئة، فمن أولى علامات الإيمان الثقة والشجاعة. علمت الخاطئة أن عليها أن تذهب الى بيت الفريّسيّ، وكانت تعلم كيف يفكّر سمعان فيها، وأنّها معرّضة للزجر أو للهزء أو حتّى للطرد، فما من فريّسىّ يقبل أن تنجّس مأدبته زانية. رغم هذا ذهبت، تبعت يسوع، وجعلت في الرّب هدفها الوحيد. الإيمان الّذي يفتّش عنه الرّب هو إيمان الخاطئة هذه: لم تفكّر في ما سيقول الناس عنّها، لم تخف من أن تهان في سبيل إتّباعها للرّب، كان كلّ همّها أن تجد يسوع.

ونحن اليوم كم نفكّر في ما سيقوله النّاس عنّا إذا ما عشنا شهادتنا ليسوع في حياتنا، كم نخشى أن نُظهر علامات إيماننا أمام الآخرين، وكم نحاول أن نماشيهم في طريقة حياتهم لئلاّ نكون مختلفين ونلاقي السخريّة. شهادتنا للمسيح هي شهادة شجاعة وثقة وافتخار، فهدفنا في كلّ ما نقوم به هو الشهادة لإنجيل الرّب في حياتنا.

معَها قارورَةُ طِيبٍ

لم تأت فارغة اليدين، لم تأت لتطلب من الرّب أن يستجيب احتياجاتها، لم تأت لتقول له: اغفر لي، سامحني، أعطني الصّحة، أعطني المال... بل جاذت تحمل أثمن ما تملك، حملت قارورة الطيب لتكرّم يسوع، وضعت أثمن ممتلكاتها في خدمة الرّب وإكرامه.

فما هي نوعيّة  علاقتنا بالرّب؟ أهي علاقة تجارة: أعطيك لتعطيني، أصلّي لك لتستجيب لي، أم هي علاقة الخاطئة هذه بالرّب: أقدّم لك أثمن ما أملك، وأضع كلّ ما لديّ في خدمة انجيلك لأنيّ أؤمن بك وبضرورة نشر تعاليمك في مجتمعي ليكون مجتمعي مختلفاً، نقيّاً، مقدّساً؟

ووقَفَت مِنْ خَلفٍ عِندَ قدَمَيْهِ وهيَ تَبكي

ثاني علامات الإيمان هو التواضع أمام الله، لقد جائت من الخلف، فالّرب متّكئ علي المائدة يرجع قدميه الى الخلف. لم تشأ أن تكون محور الحدث، بل قرّرت الإحتجاب وخدمة الرّب في الخفاء. الإيمان هو أن أعرف أنّي لا شيء أمام الله، وأن كلّ قيمتي تأخذ ملأها في نعمة المغفرة التي هي عطيّة من الله، مرتبطة بكرم الله وبنعمته لا باستحقاقي وبمميّزاتي الإنسانيّة. 

تواضع هذه الإمرأة رافقته التوبة، جائت باتّضاع، وكانت تبكي. لقد اعترفت بخطيئتها، وعلمت أن طريقة عيشها لم تكن بحسب مشيئة الله. لم تحاول أن تجد لنفسها أعذاراً، ولا أن تبرّر أسباب خطيئتها، بل تحلّت بالجرأة والشجاعة لتعترف أنّها أخطأت، وأنّها مستعدّة للإرتداد الى طريق الرّب ونحو إرادته.

 وأخذَت تَبُلُّ قَدَمَيهِ بِدُموعِها، وتَمسَحُهُما بشَعرِها، وتُقَبِّلُهُما، وتَدهَنُهُما بالطـيبِ

في تفاصيل ما قامت به الخاطئة يلفتنا أن هذه الإمرأة قد استعملت في إكرامها للمسيح ما كانت تقوم به في سبيل إغراء الرجال: الدموع، وهي الوسيلة التي تستعملها الإمرأة غالباً في سبيل  استمالة قلب الرجل وكسب حنانه. والشعر هو رمز لجمال المرأة في العهد القديم كما في كلّ الأزمنة، فكم من المرّات استعملت هذه الخاطئة شعرها لإبراز مفاتنها. والقبلات هي من أكثر عناصر أنوثة المرأة. ويبقى العطر عنصرا أساسيّاً في إبراز جمال المرأة وإظهار أنوثتها. لقد استعملت الخاطئة ما تملكه والمواهب التي كانت تملكها.

إن ارتداد هذه الخاطئة لم يجعلها تلغي عطايا الله لها، جلّ ما فعلته هو أنّها وضعت هذه المواهب في خدمة الله وإكرامه بعد أن كانت قد استعملتها في طريق الضلال. ونحن أيضاً اليوم، المدعوّوين الى الإرتداد وترك درب المعصية، لا يجب علينا أن نتخلّى عن كلّ ما أعطاناه الرّب، أن نفقد مواهبنا، أن نقتل مقدّراتنا ونقدّم للرّب كائننا المحطّم الفقير، بل يجب علينا أن نستعمل كلّ ما وهبنا الله إياه ونضعه في خدمة الإنجيل. بمواهبها التي استعملتها بشكل خاطئ، كادت هذه المرأة  أن تهلك نفسها، وبوضعها لمواهبها في خدمة الرّب، نالت الخلاص. إن الإرتداد الّذي قامت به، والّذي يجب أن نقوم به نحن أيضاً، يتضمّن ارتداد المواهب، إعادة وضعها على المسار السليم. بهذا المعنى يصبح الإرتداد تجسيداً حسّياً للإيمان، الإرتداد لا يعني فقط أن أومن نظريّاً، أو أن أتوب عقليّاً، بل إن الإرتداد هو أن تعكس كلّ أعمالي اليوميّة إيماني بالرّب يسوع. لقد آمنت هذه الخاطئة، فلم تكتفي باعلان إيمانها بالكلام أو بالمعرفة، بل كانت تملك جرأة الذهاب الى بيت سمعان لتطبّق عمليّاً إيمانها من خلال إكرام السيّد المسيح.

الفرّيسيّ أعطى الموت، يسوع أعاد للمرأة قيمتها:

يعكس هذا الحدث الإختلاف بين منطق الإنسان القادر على التدمير ومنطق الله الساعي الى اعادة الكرامة الى كلّ كائن يريد العودة الى بنّوة الله: منطق سمعان الفريّسيّ هو منطق القسوة، لا يسعى الى خلاص الخاطئ، لا يرى في هذه الإمرأة سوي خطيئتها، لا يعير أية أهميّة لكرامتها البشريّة. أمّا يسوع فينظر الى أعماقها، يرى كيانها الجريح، يرى كائناً يريد الخلاص. كلنّا نجد أنفسنا في هذه الإمرأة حين نكون محتاجين للمغفرة والشفاء، وكلّنا نكون الفريّسيّ تجاه إخوتنا الخطأة. دعوة الله لنا من خلال هذا الحدث هو أن نقتني الرحمة، فلا إيمان دون رحمة، ودون نغفرة. نحتاج الى غفران الله لنا، وعلينا أن نغفر للآخرين، أن نرى في الإنسان قيمته كابن وابنة لله، ننظر الى أعماقهم بعينيّ يسوع، نرى كرامتهم البشريّة ونحافظ عليها، رغم خطيئتهم. دورنا هو أن نجعل إخوتنا الخطأة يلمسون حضور الله في حياتهم من خلالنا، ومن خلال احترامنا لهم وصوننا لكرامتهم.

وعجِزَ الرَّجُلانِ عَنْ إيفائِهِ دَينَهُ، فأعفاهُما مِنهُ. فأيُّهُما يكونُ أكثرَ حُبّا لَهُ فأجابَهُ سِمعانُ أظُنُّ الذي أعفاهُ مِنَ الأكثرِ. فقالَ لَهُ يَسوعُ أصَبْتَ.

الله يسامحنا لأنّه يحبّنا، نحن نحبّ الله لأنّه سامحنا. الله يسامحنا لأنّنا وفيّ لحبّه لنا، نحن نحبّ الله حين نحتاج الى مغفرته. الله يظهر حبّه لنا بالشكل الأعظم حين نكون في قعر الخطيئة، ونحن في خطيئتنا لا نفكّر في الله، تجذبنا نشوة الخطيئة ونضع الله جانباً، وحين نتعب من ضياعنا وتجرح الخطيئة قلبنا، نفكّر في العودة، نطلب التوبة. لو كانت علاقتنا مع إنسان لرفض عودتنا الى صداقته، ولقال "لم تأت اليّ حين كنت تظنّ نفسك سعيداً، تركتني على هامش حياتك حين كانت لذّتك تكفيك"، أمّا الله فمنطقه مختلف، هو منطق الحبّ الأكبر لأنّه يغفر كثيراً، نعود اليه فيقلبنا، لا كسمعان الفريّسيّ يحاسبنا على ماضينا، بل يكفيه أن نعود اليه ليفتح لنا ذراعيه، ليقول لنا أنّه لم ييأس منّا، أنّه يعلّق علينا آمالاً كبيرة، لأنّه يحبّنا كثيراً. منطق الله معنا هو منطق الوالد الّذي يحبّ ابنه، ينتظره ليغفر له ويعيده الى الصداقة، فهل علاقتنا نحن مع الله هي علاقة ابن مع أبيه؟ هل نثق بالله؟ هل نعمل دوماً للعيش بحسب وصاياه وإرادته؟ هل نثق بأنّه سوف يغفر لنا إذا ما عدنا اليه حين نخطأ؟ هل نملك جرأة الخاطئة التي لم تخش الدخول الى بيت الفريّسيّ لتجد يسوع الغافر؟ هل نجرؤ نحن أيضاً على كسر كبريائنا ونعترف بخطيئتنا حبّاً بالله؟