عظات
٤‏/٩‏/٢٠١٦ زمن الميلاد المجيد | الأب بيار نجم ر.م.م

أحد تقديس وتجديد البيعة

يرقى تاريخ هذا العيد الى حوالي العام ١٦٧ قبل الميلاد. حين فرض أنطيوخوس الرابع إدخال الأصنام اليونانيّة الى جميع مقاطعات الأمبراطوريّة بهدف نشر العبادة اليونانيّة، ولم تستثنى فلسطين القديمة من هذا القرار. وحين لم يقبل اليهود بهذا الأمر شدّد الملك العبقوبات، فمنع اليهود من ممارسة شعائرهم، كراحة السبت، وعادة ختان الأطفال... الى أن شكّلت حادثة في منطقة فلسطينيّة الشرارة الأولى لثورة يهوديّة شاملة. ففي أثناء مراقبته لحسن تطبيق القرارات الملكيّة، أمر ظابط يونانيّ كاهناً يهوديّاً يِدعى متتيا أن يذبح خنزيراً للأصنام، على مذبح يهوديّ. إمتنع الكاهن عن تطبيق الأمر، فتقدّم رجل يهودّي لتنفيذ الأمر فاستلّ الكاهن سيفه وقتل اليونانيّ واليهوديّ المرتدّ. وحين قمع اليونانيّون اليهود، قام الشعب كلّه خلف الكاهن وأولاده الخمسة، وبدأوا معركة انتهت بسيطرتهم على أورشليم عام ١٦٤ قبل الميلاد. 

(متّى 16 /13-20)

وجَاءَ يَسُوعُ إِلى نَواحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيْلِبُّسَ فَسَأَلَ تَـلامِيْذَهُ قَائِلاً: "مَنْ يَقُولُ النَاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَان ؟". فقَالُوا: "بَعْضُهُم يَقُولُون: يُوحَنَّا الـمَعْمَدَان؛ وآخَرُون: إِيْليَّا؛ وغَيْرُهُم: إِرْمِيَا أَو أَحَدُ الأَنْبِيَاء". قَـالَ لَهُم: "وأَنْتُم مَـنْ تَقُولُونَ إِنِّـي أَنَا ؟". فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وقَال: أَنْتَ هُوَ الـمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الـحَيّ !". فأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُ: "طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بنَ يُونَا ! لأَنَّهُ لا لَحْمَ ولا دَمَ أَظْهَرَ لَكَ ذلِكَ، بَلْ أَبي الَّذي في السَمَاوَات. وأَنَا أَيْضًا أَقُولُ لَكَ: أَنْتَ هُوَ بُطْرُسُ، أَيِ الصَخْرَة، وعلى هـذِهِ الصَخْرَةِ سَأَبْنِي بِيْعَتِي، وأَبْوَابُ الـجَحِيْمِ لَنْ تَقْوى عَلَيْها. سَأُعْطِيكَ مَفَاتيحَ مَلَكُوتِ السَمَاوَات، فَكُلُّ مَا تَربُطُهُ على الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا في السَمَاوَات، ومَا تَحُلُّهُ على الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً في السَمَاوَات". حينَئِذٍ أَوْصَى تَلامِيْذَهُ أَلاَّ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ هُوَ الـمَسِيح.

ولما دخلوا المدينة، وجدوا الهيكل مدنّساً، والآنية متّسخة، والزيت المقدّس الّذي كان يكرّس به المذبح وعظماء الكهنة والملوك مرمياً في أرجاء المكان، والأصنام تملأ المكان، والمذبح قدرُفعت عليه الذبائح غير الطاهرة للآلهة الغريبة. فكان لا بدّ من تطهير الهيكل وتقديسه ليصبح مجدّداً هيكل الله الواحد والحقيقيّ.

يخبر التلمود أن الزيت المقدّس المتبقّي لم يكن يكفي لأنارة منارة الهيكل لأكثر من يوم واحد، ورغم هذا فالأنوار بقيت مضيئة ثمانية أيّام بطريقة عجائبيّة، لذلك صار هذا العيد يُدعى أيضاً عيد الأنوار، يُحتفل به بين شهري تشرين الثاني وكانون الأوّل لمدّة ثمانية أيّام. من هذا المنطلق يجب أن نفهم أن عيد التجديد قد ارتبط في فترة حياة يسوع بتاريخ الشعب وبهوّيته، وبالإنتظار المسيحانيّ: لقد كان الشعب ينتظر مسيحاً يخلّص الشعب من النير الرومانيّ كما خلّص متتيا المكابيّ وأولاده الشعب من الظلم اليونانيّ. لهذا جاء اليهود يسألون يسوع: "إلى متى تُبقينا حائِرينَ قُلْ لنا بِصَراحةٍ هل أنتَ المَسيحُ". لقد كان إنتظار اليهود للمسيح لا إنتظاراً روحيّاً لمخلّص سوف يأتي ليعيدهم الى علاقة البنوّة مع الله بعد إن خانوه بالخطيئة وبالكبرياء، بل كانوا يبحثون عن المخلّص السياسيّ، القائد العسكريّ، الثائر الّذي يحرّر بقوّة السيف. 

جواب المسيح لم يكن منطقيًا بالنسبة لانتظاراتهم العسكريّة ولرغباتهم القتاليّة، لقد أعلن لهم إرادة الآب، علّمهم أن المسيح الّذي ينتظرونه هو ليس مسيح الحرب، بل المسيح المرسل من الآب يعلن إرادته، وإرادة الآب هي السلام لا العنف. لقد جاء يعلن لهم أن العهد الّذي أقامه الله معهم لم يكن لتمييزهم عن الشعوب الأخرى، بل ليجعلهم حاملين رسالته الى جميع الشعوب. دعوة الله لهم هي أن يكون خدّاماً لكلمة الآب ولإرادته.

والشرط الوحيد لكيما يفهموا هذه الحقيقة هي أن يكونوا من خراف المسيح "كيفَ تُصدِّقونَ وما أنتُم مِنْ خِرافي" يقول المسيح، ليس فقط لسامعيه ذاك النهار، إنّما لنا نحن أيضاً. فنحن أيضاً ننظر الى المسيح أحياناً كقائد عسكريّ عنيف يدخل حياتنا حين نطلب منه ذلك، ليزيل منّا كلّ ما هو مزعج وليحقّق رغباتنا ويلبّي احتياجاتنا. ونرفض أحياناً كثيرة حقيقة المسيح المسالم، الّذي يأتي ليصالحنا مع ذواتنا، يعلّمنا أن الحياة المسيحيّة هي صبر وهدوء، فالله لا يجتاح حياتنا، لا يحوّلنا بالعنف وبالقوّة، فالمسيح يدخل قلبنا كما دخل عالمنا: بالسلام، بالوداعة والسكون. الّذي جاء يبيد عنف العالم لا يمكنه أن يكون عنيفاً، ولا يستعمل العنف ليحوّلنا. أن نكون من خراف المسيح يعني أن نطيع إرادة المسيح في حياتنا، فالخروف يعلم أن خلاصه هو في البقاء الى جانب الراعي، وفي الإنقياد له، إنقيادنا ليس بسبب الخوف، إذ لا يمكننا أن نخاف إلهاً أحبّنا حتّى الموت. هو انقياد الثقة، لأنّنا نعلم أنّنا بأمان معه. نسمع صوته فنجيب بالطاعة لإرادته الخلاصيّة. نسمع صوته فنطمئن، لأن صوته يبدّد الخوف من حولنا، ويجعلنا نعلم أنّنا لسنا وحيدين في هذا الوجود.

عيد التجديد اليوم في كنيستنا المارونيّة هي عودة الى هذه الحقيقة، حقيقة كوننا هياكلاً للروح القدس، أدخلنا إليه أصناماً كثيرة، أصنام الخطيئة والشهوة والمادة وحبْ التسلّط، هياكل تدنّست بالكبرياء والحقد والرغبة بالأنتقام، بالكذب والوصوليّة، بروح الزنى وخيانة وصايا الرّب، بقتل الآخرين كلّ يوم بالنميمة والتهميش. نحن هياكل مدنّسة، يرغب الرّب بالدخول اليها من جديد لتقديسها وتجديدها. عيد التجديد هو عودة الى حقيقة أنّنا خراف في قطيع المسيح، فلا معنى لوجودنا كمسيحيّين إن رفضنا حقيقتنا كأفراد في عائلة تسمّى الكنيسة، جسد المسيح العامل في العالم من أجل خلاص العالم، ونحن أعضاء هذا الجسد، كلّ منّا يقوم بدوره من أجل خلاص الإخوة من كلّ لون ولسان. خلاص العالم تعيقه خطيئتنا، وتجديدنا وتقديسنا أساسيْان، لا لخلاصنا فقط، بل لخلاص العالم ودخوله في حياة المسيح. تجديدنا وتقديسنا يقوم على تجديد انتمائنا للكنيسة والطاعة لها. أن نكون خرافاً في قطيع المسيح يعني أن نجدّد كلّ يوم إيماننا بالراعي وبقدرته على إيصالنا الى حيث يقودنا، الى خلاصنا وخلاص الكون بأسره. أن نكون خرافاً في قطيع الكنيسة يعني أن نكون رجالاً ونساءً أحراراً، بحرّيتنا نتبع المسيح، لا بسبب خوف من العقاب، ولا بسبب وسواس وقلق مرضيّ، ولا بسبب عادة أو تقاليد، بل لأنّنا لمسنا شخصيّاً حبّ المسيح في حياتنا، وعلمنا أنّه صديق وفيّ حاضر في حياتنا دوماً. أن نجدّد كنيستنا ونقدّسها يعني أن نقدّس إيماننا بالكنيسة ونجدّد عهد انتمائنا لها بالإيمان بكلمة الرّب والطاعة لتعليم كنيسته لآنّها مؤتمنة علي هذه الكلمة.

لقد جاء المسيح ليعطينا الحياة الأبديْة، ليعطي وجودنا معني أسمى من وجود أرضيّ عابر، جاء الراعي ليقول لنا أن حياتنا لا يمكنها أن تبدآ دون هدف وتنتهي دون معنى. لقد جاء ليقودنا الى معنى حياتنا الحقيقيّ، معنى نفتّش عنه كلّ يوم ونجدّد رغبتنا في بلوغه كلّ لحظة. لقد جاء "يعطي قطيعه الحياة الأبديّة فلا يخطفها منه أحد ولا يهلك أي من الخراف". تجديد حياتنا هو أن نعي من هو الراعي الحقيقيّ، وأن نعلم ما الفرق بين الراعي الصالح الّذي يعطي الحياة والسارق الّذي جاء يخطف ويهلك. كثير من الرعاة الكذبة يوهموننا الخلاص كلّ يوم، منهم من يقدّم لنا منطق الّلذة، آخرون المال، آخرون وهم الشباب الدائم والجمال الّذي لا يذوى... المسيح جاء يقول لنا أن الأهمّ هو السعي الى ما هو أساسيّ، ما لا يعبر ولا ينتهي. المسيح يعلن ذاته مخلّصاِ لا بصراخ الرعاة الكاذبين، ولا بخداع مسحاء الوهم والسراب، المسيح يأتي راعياً وديعاً، يعمل بصمت ووداعة، ويترك لنا حرّية الإختيار.

تجديد أنفسنا كهياكل للرّوح القدس هو أن نعي دعوة الله لنا "إن نكون آلهة"، أن نكون آلهة بالتبنّي، حين نقبل إن يكون الله أب لنا. الله يدعونا الى حالة الألوهة، الى أن نرتفع عن تفاهة الحياة الماديّة وأن نعي أن لوجودنا معنى أعمق وأسمى من مجرد حياة نحياها على نطاق حيوانيّ. دعوتنا أن نصبح آلهة من خلال إتّحادنا بالله خالقنا لنشاركه في خلاص كلّ إنسان أينما كنّا وبالمقدّرات الّتي أعطانا إيّاها الله مهما كانت متواضعة.

تجديد هيكلنا هو انطلاق في مسيرة تألّه للوصول الى الإتّحاد الرّوحيّ بالله مصدر وجودنا، إتّحاد نصل اليه من خلال: الصلاة: أي أن نحيا حالة صلة دائمة مع الرّب الحاضر في حياتنا. الصلاة هي تجسيد لإيماننا بحضور الله في حياتنا، وهي عمل رفع لنفسنا ولفكرنا ولروحنا نحو الله الّذي يحبّنا ويخلّصنا. الصلاة هي حوار حبّ وصداقة، وهي مصدر نعمة تساعدنا على الإتّحاد بالله للوصول الى تجسيد حقيقة بنوّتنا الإلهيّة.

التوبة: هي أن نحيا وجودنا متيقّنين أنّنا بحاجة لله دوماً، فمن دونه لا معنى لوجودنا، وبتغييبنا لله عن حياتنا نحوّل وجودنا الى مجموعة لحظات عابرة دون معنى ودون هدف. التوبة هي إن نحيا سرّ الرّجاء، أن نعرف أنّ الله حاضر في حياتنا، مستعدّ لقبولنا مهما عظمت خطيئتنا. فالله يفتح لنا بابه في كلّ لحظة، لأنّه يريد أن يدخل هيكل حياتنا ليجدّده ويقدّسه.

الكنيسة: هي عائلتنا، وهي جماعة مجاهدين يحيون الحبّ للوصول الى ملكوت السماء، والى تحقيق ملكوت الله في حياتنا وفي عالمنا. الكنيسة هي ملكوت الله على الأرض، رغم خطيئة أبنائها، تتقدّس بالمسيح رأس جسدها. تجديد البيعة اليوم يعني تجديد ثقتنا بالكنيسة أمّنا، بالكنيسة عائلتنا، بالكنيسة معلّمتنا، التي حافظت على مرّ العصور التعليم الّذي وصل الينا من الرّب عبر الرسل. تجديد الكنيسة يعني أن نجدّد ثقتنا برعاتها، نحبّهم، نصلّي من أجلهم، نكفّ عن انتقادهم ونساعدهم ليتقدّسوا. الكنيسة هي رعيّة المسيح، ونحن واحد من هذا القطيع، هلاك الرعيّة هي هلاك كلّ واحد منّا، تجديدها يبتديء بتجديدنا الشخصيّ، وتقديسها لا يتمّ دون قداستنا.

الأسرار: هي وسيلة أعطانا إيّاها السيّد تساعدنا على قداستنا. المعموديّة تُدخلنا في حياة المسيح وتجعل منّا أعضاء في جسده المقدّس. 

الإفخارستيّا هي زاد الحياة تعطينا القوّة لإكمال مسيرتنا نحو القداسة. دون الإفخارستّيا لا يمكننا أن نحيا اتّحادنا الكامل بالرّب في هذا العالم، هي مقدّمة لاتّحادنا الكامل بالله مصدر سعادتنا حين نصبح في بيت الآب. التوبة هي سرّ المصالحة مع السيّد، في كلّ مرّة نجرح حبّه لنا بخطيئتنا وكبريائنا. الأسرار كلّها في نعمة تجديد وتقديس وهبها الرّب لكنيسته، ليجدّد هيكلنا، ويقدّسنا لنصبح بكلّيتنا له، ننشر من خلال شهادة حياتنا إنجيل خلاصه. 

تبقى مريم مثالنا في التجدّد والتقدّس، هي هيكل طاهر حلّ فيه المسيح كلمة الآب بقوّة الرّوح، صار وجودها بأكمله نشيد عبادة للثالوت الأقدس، ابنة الأب، أمّ الإبن وهيكل الرّوح الأقدس. تقديس الكنيسة وتجديدها يجد مثاله في اختبار مريم التّي عاشت بطولة الإيمان في كلّ لحظة من حياتها، وعلمت أن غايتها الوحيدة هي أن تكون طاهرة دوماً ليتحّقق من خلالها حلول الله في حياة كلّ واحد منّا. مريم تعلّمنا الطاعة وقبول إرادة الله في حياتنا في أن نكون مقدّسين، مريم تعلّمنا خدمة الكلمة، هي التي كرّست حياتها لخدمة الكلمة المتجسّد، مريم تعلّمنا أن نكون هياكل مقدّسة، يجدّدها الرْب كلّ يوم بنعمته، من خلال صلاتنا، وحبّنا وخدمة كلّ محتاج.