عظات
٥‏/١٠‏/٢٠١٦ زمن الصوم | الأب بيار نجم ر.م.م

أحد عرس قانا الجليل

 إن رواية قانا الجليل هي الآية الآولى من سلسلة آيات يدرجها يوحنّا في الإنجيل وتهدف كلّها الى إعلان هويّة يسوع المسيحانيّة.  تتخطّى أهمّية هذا النّص مجرّد الجمال الأدبيّ  والبعد الإجتماعيّ والإنسانيّ ، فصحيح أنّها قصّة خلاص اجتماعيّة، حيث ينقذ يسوع عائلة العريس من ثرثرة المدعوّوين بسبب تقصيرهم ربّما، ويملأ قلوب المحتفلين فرحاً إذ يعطيهم خمراً لذيذة، إنّما إذا حصرنا رواية قانا بهذا البعد الإجتماعيّ فقط فإنّنا نضرب بعرض الحائط قصّة الخلاص الحقيقيّة، لا فقط الإجتماعيّة، التي افتتحها المسيح في آية قانا الآولى.

(يو 2 /1-11)

في اليَوْمِ الثَّالِث، كَانَ عُرْسٌ في قَانَا الـجَلِيل، وكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاك. ودُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وتَلامِيذُهُ إِلى العُرْس. ونَفَدَ الـخَمْر، فَقَالَتْ لِيَسُوعَ أُمُّهُ: "لَيْسَ لَدَيْهِم خَمْر". فَقَالَ لَهَا يَسُوع: "مَا لِي ولَكِ، يَا امْرَأَة؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْد!". فقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخَدَم: "مَهْمَا يَقُلْ لَكُم فَافْعَلُوه!". وكَانَ هُنَاكَ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حَجَر، مُعَدَّةٌ لِتَطْهيِر اليَهُود، يَسَعُ كُلٌّ مِنْهَا مِنْ ثَمَانِينَ إِلى مِئَةٍ وعِشْرينَ لِيترًا، فقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَم: "إِملأُوا الأَجْرَانَ مَاءً". فَمَلأُوهَا إِلى فَوْق. قَالَ لَهُم: "إِسْتَقُوا الآنَ، وقَدِّمُوا لِرَئِيسِ الوَلِيمَة". فَقَدَّمُوا. وذَاقَ الرَّئِيسُ الـمَاءَ، الَّذي صَارَ خَمْرًا - وكانَ لا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، والـخَدَمُ الَّذينَ اسْتَقَوا يَعْلَمُون - فَدَعَا إِلَيْهِ العَرِيسَ وقَالَ لَهُ: "كُلُّ إِنْسَانٍ يُقَدِّمُ  الـخَمْرَ الـجَيِّدَ أَوَّلاً، حَتَّى إِذَا سَكِرَ الـمَدعُوُّون، يُقَدِّمُ الأَقَلَّ جُودَة، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ إِلى الآن !". تِلْكَ كَانَتْ أُولَى آيَاتِ يَسُوع، صَنَعَهَا في قَانَا الـجَلِيل، فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ.

 موقع النّص في إطار الإنجيل الرابع:

 

يرتبط هذا النّص يطريقة وثيقة ومبرمجة بما سبقه وبما يليه، من خلال التحديد الزّمانيّ والمكانيّ في بداية النص وفي ختامه:

 

فاليوم الثالث، الى جانب البعد الرّمزي الّذي سوف نتكلّم عليه لاحقاً، هو استمراريّة زمنيّة للأيام السابقة:

 

-       1، 26-28 شهادة يوحنّا المعمدان حول الذي سوف يأتي

 

-       1، 29 تبتدئ الآية بكلمة: في اليوم التالي، وتتكلّم على اللّقاء بين يوحنّا ويسوع حمل الله.

 

-       1، 35 في اليوم التالي مرّة أخرى: يوحنّا يعلن لتلميذين من تلاميذه عن المسيح، فيتبعانه.

 

-       1، 43 في اليوم التالي مرّة ثالثة: يسوع يلتقي بفيليبّس ونتنائيل.

 

بعد هذه السلسلة من الأحداث تأتي 2، 1 "وفي اليوم الثالث" بتواصل زمنّي مع ما سبق، أي في اليوم الثالث بعد الحدث الأخير، لقاء يسوع بالتلميذين، وفي اليوم السابع بعد شهادة يوحنّا الأولى في 1، 26-28، فنحصل على أسبوع كامل، سبعة أيام هي أيضاً ذات رمزيّة مهمّة في الكتاب المقدّس ، إذا ما ربطناها بكلمة الإنجيل الأولى "في البدء"، تعود بنا الى اسبوع الخلق الأوّل: لقد بدأ الله يخلق، بواسطة الكلمة المتجسّد، شعباً جديداً يعلن كلمته.

 

ومن خلال التحديد الجغرافيّ "فانتقل الى كفرناحوم" (2، 12)، يربط الكاتب هذا النّص بما سوف يليه من الأحداث.

 

 رمزيّة النّص:

 إن الكتاب المقدّس ليس كتاباً منزلاً، بل كتاباً موحى، وبالتالي فهو ثمرة تعاون كاتبين، الكاتب الإلهي، إي الروح القدس الذي يوحي، والكاتب الإنساني، أي الإنجيلي، الذي يخضع لإلهامات الروح الموحي، إنما أيضاً يستعمل موهبته وواقعه التاريخي وإختباراته الحياتية، ويكتب الى جماعة كنسية يحاول أن يوصل اليها ما عرفه من حقيقة يسوع المسيح ويساعدها في مسيرة إيمانها.  إن الإنجيلي لم يكتب قصّة حياة يسوع، بل كتب بشارة حياة، واستعمل الرموز البيبلية ليوصل رسالته، رموز كانت تفهمها بسهولة الجماعة الأولى بسبب تعمّقهم بالكتاب المقدّس.  لذلك لا يمكننا أن نفهم عمق رسالة العهد الجديد عموماً، وهذا النص بشكل خاص دون أن نعود الى العهد القديم.

 

_ بكلامنا عن رمزية النصّ لا نلغي حقيقته التاريخية، بل نقول أن هذا الحدث التاريخي يحمل أكثر من مجرّد تأريخ، لأنّه يحمل رسالة حياة.

 

_ النص الكتابي ليس نصّاً ماضياً إنما هو نصّ يتكلّم معنا اليوم، وبالتالي فالهدف الأخير من تأمّلنا هو أن نفهم ماذا يقول النصّ لكلّ واحد وواحدة منّا.

 

 رموز النص التي إستعملها يوحنّا:

 اليوم الثالت هو قمة سلسلة من 7 أيّام، تعيدنا الى أسبوع الخلق:

-  اليوم الأول: يوحنّا يعلن البشرى للآتين من أورشليم.

-  اليوم الثاني (1، 29) هذا هو حمل الله.

- اليوم الثالث (1، 35) إندراوس وسمعان يأتيان الى يسوع.

- اليوم الرابع (1، 43) فيليبّس ونتنائيل يتبعان يسوع.

-  بعد ثلاثة أيّام كان عرس في قانا الجليل.

هو إذاً اليوم السابع، يوحنا يبدأ إنجيله "في البدء"، عودة الى الخلق، هو ليس الخلق من جديد أنما هو تجديد الخلق. في سفر التكوين نرى الله يخلق آدم وحوّاء ويسلم الأرض الى عنايتهما، ليتسلّطا بإسمه، على الخليقة، إي ليجعلاها تبقى حسنة.  في قانا نجد يسوع، آدم الجديد، ينادي مريم، يا إمرأة، كما في سفر التكوين.  هي حوّاء الجديدة بدل القديمة التي رفضت أن تطيع.

 

حوّاء عرضت على آدم المعصية، فخضع لها (تك3، 17وقالَ لآدمَ لأنَّكَ سَمِعتَ كلامَ ا‏مْرأتِكَ)؛ مريم طلبت من المسيح التدخل، فأعلن أن عمله مستمدّ من الآب.  آدم القديم أطاع المخلوق، آدم الجديد أطاع الآب، منتظراً الساعة التي حدّدها الآب.  حوّاء القديمة بحثت عن خيرها الخاص، أرادت أن تصبح ألهة (تك 3، 5 تنفَتِحُ أعينُكُما وتَصيرانِ مِثلَ اللهِ تعرفانِ الخيرَ والشَّرَّ).  آدم وحوّاء كسرا عهدهما مع الله في التكوين، والمسيح بطاعته لمخطّط الرب جدّد العهد، ومريم بطاعتها، وبدعوة الجماعة، أبناءها الى فعل ما يأمرهم الله بهم، ساهمت في هذا التجديد.

في اليوم الثالث

·اليوم الثالث: يأخذ الرقم ثلاثة أهميّة كبيرة في العهد القديم، فهو يرتبط دوماً بعدد أيّام المحنة التي يليها الخلاص: في  تك 41، 18 إخوة يوسف يتحرّرون في اليوم الثالث، في خر 15، 22 أسرائيل يسير ثلاثة أيام نحو الحرّية؛ في يونان 2، 1 يبقى يونان ثلاثة أيام في بطن الحوت، في خر 19، 10. 16 ينتظر الشعب لمدّة ثلاثة أيّام تجلّي الرب على الجبل.

إنّما هو في العهد الجديد يوم  القيامة، يوم إعلان المسيح مجد الوهته كإبن الله المنتصر.

نجد في رواية قانا الجليل عناصر عدّة مشتركة مع رواية تجلّي الرّب على سيناء في خر 19:

·       اليوم الثالث أظهر الله مجده على الجبل وحَدَثَ في اليَومِ الثَّالِثِ عِندَ الصَّباحِ أَنْ كانَت رُعودٌ وبُروقٌ وغَمامٌ ونَزَلَ الرَّبُّ على جَبَلِ سيناءَ ويسوع أظهر مجده في قانا.

·       إفعلوا ما يأمركم به قالت مريم للخدم و كُلُّ ما تَكَلَّمَ الرَّبُّ بِه نَعمَلُه قال شعب إسرائيل.

·       الإمرأة في قانا هي شعب إسرائيل الموجود على الجبل.

إن هذه العناصر لا ترد بالصدفة في رواية عرس قانا، فالتشابه الّلفظيّ الكبير بين النصيّن يشير الى أن كاتب الإنجيل الرّابع قد قصد أن يستعمل هذه العبارات لسبب لاهوتيّ وتعليميّ.

 

 كان عرس في قانا الجليل

يأخذ العرس دوماً رمزيّة العهد الذي أقامه الله بينه وبين إسرائيل

·       أرم 51، 5 إِنَّ إِسْرائيلَ ويَهوذا لم يَتَرَمَّلا مِن إِلهِهما، مِن رَبِّ القُوَّات وإِن مُلِئَت أَرضُهما إِثماً على قُدُّوسِ إِسْرائيل.

·       حز 16 مَرَرتُ بِكِ ورَأَيتُكِ، فإِذا زَمانكِ زَمانُ الحبّ، فبَسَطتُ ذَيلَ رِدائي علَيكِ وسَتَرتُ عَورَتَكِ، وأَقسَمتُ لَكِ ودَخَلتُ معَكِ في عَهْدٍ ، يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ، فصِرتِ لي.

·       وفي غضبه على اسرائيل يقول الله على لسان هوشع: " حاكِموا أمَّكُم، حاكِموها فما هيَ اَمرَأتي، ولا أنا رَجلُها،" (هو 2، 2).

وكانت امّ يسوع هناك

ما يثير الإستغراب  والتساؤل هو ان الكاتب يضع مريم في المقام الأوّل في هذا النّص، حتى قبل يسوع نفسه، إن من الناحيّة الزمنية، يوردها الكاتب في بداية النّص مباشرة، وإن من ناحية أخذ المبادرة التي تفتح المجال أمام حدوث الآية، وبالتالي أمام تقديم ساعة يسوع، ساعة إعلان المجد التي يجب أن تتمّ على الصليب.  إنّما، وإن كان الكاتب يقدّم مريم على ابنها من الناحيّة الزمنيّة، إلاّ أنّه يظهر حذراً شديداً من ناحية تقديم مريم على يسوع من ناحية الدور الّذي يلعبه كلّ واحد منهما، لهذا لا تُعطى مريم اسماً في الإنجيل الرّابع، بل تعطى دوراً، هي ليست مريم، بل هي امّ يسوع، فأهميّتها بالنسبة للإنجيليّ الرابع لا تكمن في شخصها التاريخيّ فحسب، بل تتخطّاه الى ناحية الدّور الّذي لعبته في مخطّط الخلاص الإلهيّ، فهي التي قبلت كلمة الله وحملتها واعطتها للعالم، وهي قادرة أن تطلب من ابنها وربّها أن يتمّم النقص البشري بخمر الفرح الإلهيّ دوماً.

 

من خلال دورها هذا، تمثّل مريم استمراريّة بين العهدين.  مرّتان يرد ذكرها في يوحنّا، في قانا وعند أقدام الصليب، ممثلّة للعهد القديم الّذي ينتظر وصول العهد الجديد ويساهم في تحقيقه، هي التي تعلن أن ماء العهد القديم قد نفذت، لم تعد بإمكانها إرواء عطش الإنسان ولا بدّ من خمرة العهد الجديد.

 

ما لي ولك يا امرأة

الإمرأة هي رمز إسرائيل وعروس يهوه.  هي إبنة صهيون التي ترمز الى شعب الله  هي أيضاً صورة الخلق، حوّاء القديمة دُعيت أيضاً إمرأة، ولا يغيب عن بال يوحنّا رمزية الكلمة ليعلن حقيقة التجديد الذي سيتمّمه المسيح في حياته على الأرض.

 

إنّما تبقى عبارة "ما لي ولك" من أكثر التعابير بعثاً للجدل في العهد الجديد، وقد حملت العديد من الدارسين على محاولة تقديم تلطيفات للعبارات القاسية الخارجة من فم الإبن والموجّهة للأم المؤمنة والواثقة بقدرته.  "ما لي ولك"  هي عبارة مشتركة بين كلّ اللّغات الساميّة، الآراميّة، العبريّة، السريانيّة والعربيّة، للتعبير عن انقطاع في الصلة والعلاقة بين المتكلّم والمُخاطَب، وتنطوي على نوع من القسوة والرفضيّة.  بعض الشرّاح يفسّرونها بمعنى اختصار "ما لي ولك كلينا في ما يتعلّق بهم"، إنّما هو شرح تبريريّ  غير مرجّح، إذا ما قارنّا هذه الحالة بالأماكن الأخرى التي ترد فيها في العهد القديم.  هي عبارة يستعملها يوحنّا ليضع مريم في مكانها الأوّل، مريم التلميذة المؤمنة التي ترجو تدخّل الله في حينه.

 

 لم تأتي ساعتي بعد

القسم الثاني من جواب يسوع يبقى أيضاً مبهماً، ليس بسبب العبارة ذاتها، إنّما بسبب عدم وضوح ما ّاذا كانت استفهاميّة أو تأكيديّة.  فالمخطوطات الأقدم التي هي باستعمالنا اليوم لا تحتوي على نقاط الوقف، فلا يمكننا أن نعرف ما إذا كانت العبارة استفهاميّة أم لا إلاّ من خلال معنى النصّ الأشمل.  في نصّنا هذا لا يمكننا ان نعرف بطريقة مؤكّدة ما إذا كان يسوع قد قال: لم تأتي ساعتي بعد (معنى تأكيديّ) أو "أما أتت ساعتي؟"، بمعنى استفاهميّ جدليّ لا يحتمل الاّ جواب إيجابيّ (وبهذا الشكل قد فهمها القدّيس غريغوريوس النيصيّ).  فإذا أخذنا هذه الآية بالمعنى الثاني الإستفهاميّ، ينتفي التناقض بين رفض يسوع في البداية وتتميمه للامر مباشرة بعض الرّفض.

 

إنّما إذا باخذنا المعنى الأوّل نحافظ على النص أميناً للاّهوت اليوحنّوي الّذي يقصد بالساعة ساعة الموت على الصليب، ويسميّها أيضاً ساعة الإرتفاع، وساعة التمجيد، لأنّه موت يعطي الحياة للبشريّة.   تقديمه الساعة في عرس قانا هو اعلان يسوع للشعب، وللمرّة الأولى، عمّا هو مزمع أن يتحقّق في حياة المسيح وفي موته وقيامته.  هو استباق لساعة الموت، لساعة تمجّد ابن الإنسان.

 

 الماء

للماء رمزيّة قويّة في العهد القديم أخذها العهد الجديد أيضاً، فالكتاب المقدّس يبتديء بالماء (ماء الغمر) وينتهي بالماء (نهر الماء الحيّ في الفصل الأخير من سفر الرؤيا): هي مياه الخلق، مياه الطوفان، مياه الغسل، مياه تطهير اليهود،كما في عرس قانا، نجدها في خر 29، 4؛ 30، 18-21)، المياه تقدّم الى الضيوف ليغتسلوا بعد السفر (تك 18، 4)، مياه المعمودية، مياه جنب المسيح.  هي بالإجمال رمز الطبيعة البشرية الخاطئة المحتاجة الى تطهير (معمودية وغسل) مياه الشر والحاجز الّذي يمنع اسرائيل من العبور الى أرض الميعاد في سفر الخروج.  هي بحسب كتاب المزامير مسكن التنيّن واللويتان أعداء الله (مز 74، 14؛ 104، 26)، وهي أيضاً مصدر الخطر لجماعة التلاميذ في العاصفة (لو 8، 24)، ولبطرس حين كان يغرق.  يسوع يحوّل مياه شرّنا الى خمر فرح الخلاص ويملا نقصنا برحمته.

 

ستة أجران ماء

المكيال يساوي 40 ليتر ماء تقريباً، وبالتالي تكون كميّة المياه حوالي ال 720 ليتراً، كمّية كبيرة من المياه مستغربة في بيت عادي في شمال إسرائيل، إنما برمزية يوحنّا نفهم أن المقصود هو أن رغم كثرة المياه، رغم كثافة الوصايا، رغم الثبات في الشريعة، لم يقدر الشعب أن يخلص، بل بقي عطشاناً.  720 ليتر من الماء على الباب إنما الخمر قد نفذ، ولم ينفع ماء التطهير الحضور شيئاً ليفرحوا بالعرس.

 

ستّة أجران: الستّة هو رقم النقص  في الكتاب المقدّس، هي إشارة الى مياه الشريعة (ماء للتطهير بحسب ناموس موسى) التي تأخذ بيسوع المسيح تمامها، فهو ما جاء يُبطل الشريعة بل أتى يكمّلها.  لقد حوّل المسيح مياه شريعة موسى الى خمر فرح الوصيّة الجديدة، وصيّة المحبّة، وبها بلغ العهد القديم معمق معناه.

 

 الخمر

-       هو رمز فرح العهد الجديد إي الإنجيل:

 

·       أشعيا 25، 6 وفي هذا الجَبَلِ سيَضَعُ رَبُّ القُوَّات لِجَميعِ الشُّعوبِ مَأدُبَةَ مُسَمَّنات مَأدُبَةَ خَمرَةٍ مُعَتَّقَة مُسَمِّناتٍ ذاتِ مُخٍّ ونَبيذٍ مُرَوَّق، يوئيل 4/ 18 وفي ذلك اليَوم تَقطُرُ الجِبالُ نَبيذاً وتَفيضُ التِّلالُ لَبَناً حَليباً.

 

·       مزمور 104، 14- 15 تُنبِتُ العُشْبَ لِلبهائِمِ والخُضرةَ لِخِدمةِ البشَرِ، فيُخرِجُونَ قُوتاً مِنَ الأرضِ، خَمراً تُفَرِّحُ قلبَ الإنسانِ وزَيتاً يجعَلُ وجهَهُ مُشرِقاً وخبزاً يَسنُدُ بهِ قلبَهُ.

 

-        رمز الخصب الذي يعد الله شعبه به في الأرض التي يعطيه إيّاها:

 

-       هو رمز شعب الله الذي يحيا حضور المسيح في وسطه:

 

·        إرميا 2، 21 أنا غرَسْتُكِ أجودَ كَرمَةٍ، وزرَعْتُكِ كُلَّكِ أفضَلَ زَرْعٍ، فكَيفَ تحَوَّلْتِ إلى كَرمَةٍ تنَكَّرت لي.

 

·       حزقيال 15، 6 لذلِكَ هكذا قالَ السَّيِّدُ الرّبُّ كعودِ الكرمةِ الّذي جعَلْتُهُ مِنْ بَينِ عيدانِ الغابةِ مأكلاً للنَّارِ، كذلِكَ جَعلْتُ سُكَّانَ أُورُشليمَ.

 

·       هوشع 10، 1 بَنو إِسرائيلَ كَرمةٌ مُنتَشِرةٌ تُثمِرُ ثمراً كثيراً

 

-       الخمر هو رمز البركة التي ينالها الشعب المختار  نتيجة العهد مع الله (إر 2، 21)، فالشعب هو الدالية (هو 10، 1؛ إش 5، 7؛ مز 80، 9).

 

-       الخمر أيضاً هو رمز لدينونة الله بحسب أشعيا، فالخمر الجديدة هي في حزن والدالية تذوي (أش 24، 7)، والفرح يزول نتيجة غياب الخمر (أش 24، 11).

 

-       الخمر ايضاً، وهو الرمز الأهمّ لنصّنا هذا، هو رمز إعادة تجديد العهد بين الله وشعبه، تجديد الخطوبة بين الله وأسرائيل، العرس والخمر كلاهما موجودان في رواية قانا الجليل.  يسوع المسيح بآية التحويل يعيد تجديد العهد المحطّم بين الله وشعبه، محطّم بسبب خيانة الشعب لربّ العهد.

 

 العريس الرمز الغائب

يسترعي انتباهنا غياب العريس عن النصّ بأكمله، وهو الشّخص المفترض أن يكون محور النّص بأكمله، فهو صاحب الدعوة، وعليه تقع مهمّة تأمين احتياجات العرس وسدّ النقص في حال حصوله.  إن هذا الغياب هو رمز مقصود من قبل الكاتب لإظهار العريس الحقيقيّ: فيسوع هو الّذي سدّ النقص وأزال الخوف والإضطراب، هو الّذي قدّم في النهاية الخمر الجيّدة، هو العريس الحقيقيّ الّذي يدخل في عهد جديد، عهد حبّ مع الإنسانيّة، عهدٍ لا تراجع عنه لأنّه كُتب بالخمر التي سوف تهرق فوق الجلجلة.

 

 

التأمّل:

روح التعاضد والخدمة: مريم أمّ يسوع، مع كونها واحدة من المدعوّوين، لم تقف جانباً لحظة عانى العروسين خطر العوز.  هي الإمرأة التي تضع ذاتها في خدمة الآخرين ليبلغوا السعادة، لقد كانت وسيلة لإيصال إرادة يسوع الخلاصيّة بطلبها وضراعتها.  هي نفسها اليوم في حياة الكنيسة، البتول القادرة وام الملك، يستجيب الإبن لطلبتها فيلبّي ويملأ عوزنا بغناه.  الدور الذّي لعبته مريم في عرس قانا هو مثال لكلّ معمّد، دعوة لكلّ واحد منّا للوقوف الى جانب المعوز والتكاتف وإيّاه وإعطاءه الخلاص.  كم من أشخاص حولنا تنقصهم خمرة الفرح، غارقين في يأسهم ومشاكلهم وآلامهم، ينتظرون منّا أن نكون مريم أخرى، نحمل يسوع الى حياتهم ونساعده في إيصال خمر فرحه يزيل حزنهم.

 

روح الإيمان والرّجاء:  لقد علمت مريم أن بأمكان يسوع أن يغيّر شيئاً، لم تخشى ان تعلمه بنقصهم، اوكلت اليه أمرهم دون أن تقول له ماذا عليه ان يفعل.  كانت مؤمنة فعرفت إلى من تلجأ، وكانت متّكلة على الرّب واثقة بإرادته فلم تقل ليسوع: أعطهم خمراً، أوكلت اليه أمرهم وهي واثقة بعنايته.  كم من المرّات نقنط ونيأس، نظن ان الرّب لا يبالي بنا، فلا نسأله.  كم من الأحيان نفتقد الرجاء والثقة، فنسعى الى إيجاد حلولنا بوسائلنا الخاصّة مهّمشين الله من حياتنا.  أو كم من المرّات نريد أن نشير الى الرّب ما عليه أن يفعل، نظنّ انفسنا حكماء أكثر منه، نعلّمه ما عليه فعله، نفتّش عن الحلول الأسهل ونطلب من الرّب التنفيذ، متجاهلين عناية الله بنا وغير واثقين به.  مريم كانت إمرأة الإيمان، علمت أن يسوع قادر على التغيير، إنّما كانت إمرأة التواضع والرجاء، لم تطلب منه شيئاً، وضعت عوز البشريّة بين يديه متّكلة على عناية الآب، واثقة بمخطّطه الخلاصي من أجل البشريّة.

 

إيمان الخدّام مُلفت للنظر أيضاً وطواعيّتهم مدهشة، لقد كفاهم أن يسمعوا طلب مريم منهم أن يفعلوا كلّ ما يأمرهم به لينفّذوا.  لم يعاينوا حصول المعجزة، بل جلّ ما فعلوه هو أنّهم ملأوا الأجاجين ماء وقدّموا منه للحاضرين.  لم يطرحوا اسئلة، لم يخشوا ان يقال عنهم أنّهم يقدّمون الماء بدل الخمر، لم يخشوا توبيخ رئيس المائدة أو سخرية الحاضرين.  إنّهم مثال لكلّ مؤمن، لا يحاول أن يفهم سرّ الإيمان ويخضع الألوهة لنور عقله المحدود، ولا يخشى التضحية في سبيل خدمة الرّب.  يعلم أن الرّب صادق، وأنّه قادر على إيجاد الحلول لمشاكلنا، حين لا ننتظر الحلّ ودون أن نراه أحياناً.  التلميذ هو كائن يدفعه إيمانه بالرّب ورجاءه بالخلاص الّذي يعطيه إيّاه ومحبّته لإخوته البشر الّذي يشارك هو المسيحَ في تقديم خمر الخلاص اليهم.

 

مريم تعلّم التلاميذ طاعة المعلّم

تظهر مريم في هذا النّص بصورة المرأة المؤمنة، واثقة بقدرة الرّب على إعطاء الخلاص وسط المحنة، تضع المشكلة بين يديه دون أن تملي عليه الشروط.  هي استمراريّة لما سبق من أحداث في ماضيها، حين دخل الرّب الى صميم حياتها وأظهر لها مخطّطه لها، خضعت ولم تملي الشروط، علمت أّن ما يريده الله منها يستوجب الألم والتضحية ويمكن أن يوصلها الى الموت، إنّما لأنّها إمرأة الإيمان أخضعت فكرها وإرادتها لأرادة الرّب ولمخطّطه في حياتها.

 

مريم لم تنغلق على اختبارها الشخصيّ مع الرّب بل أشركت فيه تلاميذ الإبن في حثّهم على الخضوع لإرادته وعلى طاعته، فهو وحده يقدر على صنع المعجزات في حياتهم، هو وحده يقدر على إعطاء معنى جديد لوجودهم وللوجود البشريّ بأسره، وهو يحتاج الى إيمانهم، وإيديهم، وتعبهم وطواعيّتهم.  مريم علّمت الخدّام أن يعملوا ما يأمر السيّد، بإيمان وثقة، لأنّه يريد إشراكهم في تحقيق الخلاص للبشريّة.  الرّب يعمل في العالم من خلال يد التلميذ وفي تعبه.  مريم تسهم في جعل التلميذ على مثالها، مشاركاً في عمل الخلاص المعطى بالمسيح وحده للجنس البشريّ.

 

دعوة عامّة الى الخدمة الكهنوتيّة: إن يوحنّا يستعمل كلمة diakonois خدّام، وهي كلمة تعني أيضاً الخدمة بمعناها اللّيتورجيّ، أي الشمّاسية.  هي رسالة موجّهة الى كلّ مسيحيّ معمّد يشترك في كهنوت المسيح العام أن يكون خادماً ليسوع الكلمة ومشاركاً في تتميم خلاصه.  هويّتنا الكهنوتيّة العامّة تدفعنا الى المشاركة في عمل التحويل الخلاصيّ، فكما يحوّل الكاهن يقوّة الروح وباسم المسيح وشخصه الخبز والخمر الى جسد المسيح ودمه، كذلك يحوّل المعمّد، المشارك في كهنوت المسيح العام، ماء الألم الى خمر رجاء.  دعوتنا ان نعطي معنى جديداً لوجودنا البشرّي، أن نشارك المسيح في تغيير صورة العالم الحاضر، بدءاً بتغيير منطقنا وطريقة حياتنا.  دعوتنا المسيحيّة هي أن نفعل ما يأمرنا به المسيح، نقدّم الى العالم الّذي ينقصه الخمر، نبيذ الفرح: خمر الفرح لمن يحيا في تعاسة، خمر الرجاء لمن يتملّكه اليأس، خمر السلام لمن يتألّم من منطق العنف، خمر المغفرة لمن تتآكله روح الإنتقام، خمر المشاركة والعطاء لمن هو مكبّل في أنانيّته أو يعاني بسبب انانيّة الآخرين، خمر المشاركة لمن يحيا وحيداً.  دعوتنا لأن نكون خدّاماً هي ليست دعوة نظريّة، بل يجب أن نكشف عن سواعدنا ونبدأ العمل، نقف الى جانب الأكثر ضعفاً وألماً وتهميشاً، ونعلن أن كلّ إنسان، مهما كانت خطيئته عظيمة، هو على صورة الله ومثاله، ومن واجبنا كخدّام للإبن أن نساعده على اكتشاف هذه الهويّة من جديد.

 

 دعوة الى الفرح:  إن دعوتنا المسيحيّة هي أن نحيا فرح الخلاص في كلّ لحظة، رغم الألم وفي وسط الصعاب والأحزان، نفرح، لأنّ المسيح قادر على التدخّل.  لسنا أشخاصاً دعينا لنحيا الحزن واليأس، نحن أشخاص مخلّصون، نحيا بهجة الخلاص بيسوع الّذي يعطي حياتنا خمر الفرح.

 

دعوة لجعل العائلة مكان حضور إلهي: يا لسعادة تلك العائلة التي قبلت يسوع ومريم في عداد مدعويّها، وكم عائلاتنا بحاجة الى هذا الحضور الإلهي في وسطها اليوم.  هي دعوة لكلّ عائلة، لا سيّما لمن يدخل في عهد زواج، أن يكون المسيح الحاضر الدائم في حياتهم.  بالمسيح يقدر الزوجان أن يكونا عائلة متجدّدة، يملأها الرجاء والثقة ان المسيح حاضر لحظة يوشك خمر فرحهما ان ينتهي.  هي دعوة لأن نجعل العذراء الأمّ حاضرة دائماً في العائلة، فهي التي تطلب وتضرع، هي البتول المستجابة والقادرة، هي الأمّ الساهرة على عائلتنا وهي المعلّمة في وجوب تتميم كلّ ما يقوله الله لنا.  فلنجعل من المسيح محور عائلتنا لئلاّ تجفّ خمرة فرحنا الحقيقيّ، فبه وحده سلام القلب والحبّ المتجدّد.  العائلة التي تلتزم بمنطق المسيح وتجعله حاضراً في وسطها تصبح نواة تغيير للمجتمع بأسره، تعلن للكون من خلال خمر الحبّ المتجدّد دوماً في داخلها، أن يسوع حاضر، وهو يعمل دوماً، وهو قادر على تحويل صعوباتنا كما حوّل الماء الى خمر، وهو وحده يعطي عائلتنا السعادة الحقّة كما أبهج المدعوّوين في ذلك اليوم في قانا الجليل، فأظهر للتلاميذ، من خلال فرح المدعوّوين أنّه هو الإله الحق، فمن غير الله يعطينا الفرح الحقيقيّ الّذي لا يزول؟