عظات
٥‏/١٠‏/٢٠١٦ زمن الصوم | الأب بيار نجم ر.م.م

إثنين الرماد

قد نخجل نحن مسيحيو اليوم إذا ما فتحنا سفر أشعيا النبي وقرأناه مُعلناً: "الصوم الذي أريده هو أن تُحل قيود الظلم، وتفك سلاسل الإستعباد ويُطلق المنسحقون أحراراً وينزع كل قيد عنهم". (أش58، 6). نخجل لأننا نوشك أن نحيد عن الطريق، نرمي الجوهر بحثا عن قشور، ونغض الطرف عن المحوريّ متمسكين بما هو عابر.

(متى 6 /16-21)

ومَتَى صُمْتُم، لا تُعَبِّسُوا كَالـمُرَائِين، فَإِنَّهُم يُنَكِّرُونَ وُجُوهَهُم لِيَظْهَرُوا لِلنَّاسِ أَنَّهُم صَائِمُون. أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُم قَدْ نَالُوا أَجْرَهُم. أَمَّا أَنْتَ، مَتَى صُمْتَ، فَادْهُنْ رَأْسَكَ، وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِئَلاَّ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صَائِم، بَلْ لأَبِيكَ الَّذي في الـخَفَاء، وأَبُوكَ الَّذي يَرَى في الـخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيك. لا تَكْنِزُوا لَكُم كُنُوزًا على الأَرْض، حَيْثُ العُثُّ والسُّوسُ يُفْسِدَان، وحَيْثُ اللُّصُوصُ يَنْقُبُونَ ويَسْرِقُون، بَلِ اكْنِزُوا لَكُم كُنُوزًا في السَّمَاء، حَيْثُ لا عُثَّ ولا سُوسَ يُفْسِدَان، وحَيْثُ لا لُصُوصَ يَنْقُبُونَ ويَسْرِقُون. فَحَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ، هُنَاكَ يَكُونُ أَيْضًا قَلبُكَ.

نبحث عن بعض إماتات، حاصرين صيامنا بامتناع عن طعام ننتظر دقائقه تمر متباطئة، أو نقطع عهداً بانقطاع عن أمر نحبّه، منتظرين إنتهاء أيام أربعين لنعود إليه بنهم أكبر.

 

ليس الصوم هذا إذا ما عدنا إلى أشعيا النبي، "ليس هو أن أحني رأسي كعشبة وأفترش المسح والرماد" (58، 5)، والويل لي إذا حصرت الصوم بهذا وحده.

 

منطق صومنا هو منطق مجتزأ، وإذا طرحنا على أنفسنا السؤال حول معنى الصوم، تقفز إلى خاطرنا عشرات الأجوبة: الصوم هو فترة ألم، فترة انقطاع، فترة إماتة، فترة إختبار... ونوشك أن ننسى الجزء الأهم والهدف الأساسيّ: الصوم هو الإنطلاق نحو الآخر لإعطاءه الحياة، هو العودة إلى الله، لأعلن له إني أحبّه فوق كل الخيور الأخرى، وما انقطاعي عما هو حسن إلاّ لأعلن بملء كياني للّه مصدري وغايتي، كم أنا أحبه، وكم هو أغلى من كل الخيور المادّية.

 

صومنا يضحي مجتزأ إذا ما أهملنا ما هو محوري: الآخر، صورة الله ومِثاله، أخي الانسان المتألم، أكان ألمه ماديا أم معنوياً. فالصوم كما يقول أشعيا النبّي: :هو أن أكسر للجائع خبزي وأدخل الطريد المسكين بيتي، وأن أرى العريان فأكسوه، ولا أتوارى عن أهل بيتي". (أشعيا 58، 7).

 

هي قيم نحتاجها اليوم في مجتمع يتألم، أكاد أقول يُنازع، تخنق أبناءَه الفرديةُ والمادّية، الوصوليّةُ والإستهلاك، يحيا كلٌ بمفرده كأنما عالمنا قد صار مجموعة جزر لا تتقاطع فيها الدروب ولا تتلاقى.

 

الصوم الذي نحتاجه اليوم هو بمثابة "النزوح الى الاعماق لإلقاء الشبكة" (لوقا 5، 4)، البحث عن الانسان واعطاءه الخلاص. هو ما اعلنه اشعيا ودعاه "الصوم المقبول عند الرب"، وهو ما تمّمه يسوع المسيح معطياً ذاته فداء احباءه.

 

مجتمعنا اليوم محتاج الى الخبز وصومنا هو مشاركة المحتاج خبزنا. والخبز ليس فقط كمأكل ماديّ، بل هو في الكتاب المقدّس رمزٌ للحياة نفسها، هو تقاسم المصير، واتاحة المجال للانسان أن ينطلق من جديد في حياة جديدة. عالمنا اليوم يبحث عن خبز يشبع فيه جوعه، شبيبتنا تبحث عن خبز يعطيها معنى لحياتها، تفتش عنه في أزقة الظلام وأودية المخدرات وعبثية اللذة. ان اكسر للجائع خبزي هو ان اعي دعوتي كمسيحي لأن اقف الى جانب من هو بحاجة الى الرفيق، ان أكسر خبزي هو ان أشبع جوع المتألم الى كلمة تعزية، والوحيد الى وقفة تعاضد، والمهمّش الى التفاتة اخوية واليائس الى معنى جديد لحياته.  الصوم المقبول عند الرب هو "ان ادخل الطريد بيتي"، اي ان افسح للغريب مكانا في حياتي، فلا اجعل نفسي محور الوجود ومالكاً للحقيقة المطلقة، ان ادخل الطريد بيتي هو ان اقبل حقّ الآخر في ان يكون مختلفا، اقبله، وأحبّه وادخل في علاقة حوار معه، فأغتني منه وأغنيه.

 

الصوم هو ان "ارى العريان فأكسوه"، وأي ّعُري اليوم أفضح من عري الانسانية الممتهنة كرامتها، والصوم الحقيقي هو نظرة جديدة الى اخي الانسان، نظرة جديدة بأعين جديدة، اعين المسيح، وبمنطق مختلف، منطق الناصري ّالذي مات ليعيد للإنسان كرامته.  الصوم هو ان أنظر الى الانسان المُعَرّى، كما المسيح على الصليب، عرّاه مجتمع يرى في جسده وسيلةَ لذَّةٍ، وفي شخصه دربَ عبورٍ يدوسه ليصل الى ما هو أبعد. الصوم الحقيقي هو اعادة الثوب الى انسان عصرنا، أن انظر الى الانسان كقيمة مطلقة لا تحدّها لا وصوليّة ولا ماديّة ولا استهلاك، لأنه على صورة الله ومثاله قد خُلق، وثمنه دم المسيح المراق فوق الجلجلة.

 

الصوم الذي نصبو اليه هو صوم المسيح الرافض قيمَ العالمِ الثلاث، قيماً لا تزال تستعبد مجتمعنا بعد مرور عشرين قرناً ونيّف:

 

إن كان الخبز هو رمز الحياة، فالحجر هو رمز الموت والإنغلاق على الذات، كالصخرة الّتي وُضعت على قبر الفادي تسدّ كلّ بريق أمل.  تجربة  "قل لهذه الحجارة فتتحوّل خبزاً"، هو حصر وجودنا بالبعد المادي الجسدي، واستعباد جسدنا لسلطان الشهوة، فنضع رجاءنا في اكتفاء مادي، باحثين عن الغنى، او في شهوة جسدية علّها تشبع فراغ قلبٍ فلا تعطيه الا فراغاً اكبر.  صومنا، على ضوء تجربة الشيطان الأولى، هو أن نعي أن لا أمكانيّة لاستخراج معنى لحياتنا، خبزاً لوجودنا، من قيم الماديّة الميتة، صومنا هو عودة الى الذات للبحث عن الخبز الحقّ، الخبز الّذي أعلنه المسيح المُجَرَّب والمنتصر، خبز كلمة الله التي  تعطي الحياة الحقّة.

 

وتجربة السلطة "أُعطيكَ هذا السُّلطانَ كُلَّهُ ومَجدَ هذِهِ الممالِكِ، لأنَّني أملكُهُ وأنا أُعطيهِ لِمَنْ أشاءُ. فإنْ سَجَدتَ لي يكونُ كُلُّهُ لكَ" (لو 4، 6- 7).  هي تجربة السعي الى سلطة على حساب كرامة شعوب وتضحية شباب ودماء شهداء ودموع شيب. هي ان اضع خلاصي في تسلّطي على قريبي، ونجاحي في استعبادي لمن هو محتاج اليّ.  الصوم هو دخول في علاقة حبّ مع كلّ إنسان، علاقة حبّ تتجلّى في قبولي للآخر كمساوٍ لي، له الحقوق نفسها.   الصوم هو أعادة نظرٍ في نوعيّة علاقتي بالآخرين: في عائلتي، ومجتمعي، وعملي.  كم من مرّات في حياتنا اليوميّة نسجد للشيطان سعياً الى ممالك العالم وغناه:  صرنا نسميّ السرقةَ "شطارة" وسرقة صندوق ربّ عملي "ذكاء"، وتسلّطي على القريب "قوّة شخصيّة" وانتهاك حقوق الموظّف "حسن إدارة"، هي كلّها أفعال سجود معاصرةٍ لشياطين عصرنا، وما أحوجنا الى كلمة المسيح المنتصر على التجربة عينها: "لله وحده تسجد".

 

وتجربة الله، "ارم بنفسك فهو يوصي ملائكته بك"، هي تجربة نواجهها كل يوم، تجربةُ أن اجعل نفسي الهاً بمعزلٍ عن الله خالقي والرب فاديّ، هي ان اسعى الى خلاصي بقوّتي، وبعقلي، منصّباً ذاتي كمفسّر للشرائع الإلهيّة والانسانية، واجعل نفسي اذكى وأفقه واعلم من كنيسة بُنيت على صخرة المسيح وتستمد منه تعليمها.  هي تجربة قد أسقط فيها هي أظنّ نفسي قادراً على امتلاك الله بعقلي،  وحين أقرّر عنه ما هو الصالح لي، أرمي بذاتي في تهالك وأطلب منه أرسال الملائكة.  أرتكب الشّر وأثور على الله حين تقع عاقبة شرّي عليّ.  أثور عليه وأُغيّبه عن حياتي إذا ما مرضتُ أو فقدت حبيباً أو قريباً، وأنسى أنّه عانى من أجلي  الوحدة والألم والموت، حمل صليبي عنّي ليعلّمني كيف يتمّ تحويل الألم فرحاً والموتُ حياة.  الصوم الأسمى هو بناء علاقة إيمان بالله، والإيمان ثقة بلا حدود، عالماً أن الله هو أبٌ، والأب يسعى عن خير ابنه.

 

صومنا اليوم هو ان نعلن رفضنا لهذه القيم العرجاء القديمة المتجدّدة، وأن نسعى، في حياتنا اليومية، وفي أدق تفاصيل يوميّاتنا، الى عدم تكبيل واقعنا بالمادية، واستعباد ذواتنا للمال بالبخل والطمع والحسد وإبادة المنافس، هو ان نعلن رفضنا لشهوة السلطة واختزال الآخر والسعي الى ممالك الارض العابرة، فأبني في بيتي الحوار لا التسلّط، وفي عملي العدالة لا الاستغلال وفي وطني المواطنية لا الاستعداء. 

 

صومنا هو ان نخلق فينا حس الانتماء لكنيسة تجمع الشعوب من كل عرق ولون ولسان، يوحّدها ايمانها بالفادي الأوحد، والطاعة لارادة الرب في حياتنا خاصة حينما يبدو لنا ان الحل الأسهل هو في تتميم ارادتنا، والتغاضي عن تعليم الكنيسة، الأم والمعلمة.

 

عندها تصبح للاماتة معنى، وللانقطاع هدف، حين اقف وقفة فحص ضمير وعودة الى الذات الداخلية، متذكّراً انّ لي وسائل تقديس الهيّة أستند إليها: اسرار الكنيسة، لاسيما سرّي التوبة والافخارستيا، والكتاب المقدس، كلمة الله تتّجه الي شخصياً وجماعيّا، من خلال التزامي برعيتي، بيتي الثاني.  كم هو جيد ان تعود رعايانا بأغلبها الى ما نسميه أسبوع "رياضة روحية" تسبق أسبوع آلام الفادي، تعود فيها الرعيّة كلّها، كجماعة واحدة، نحو الله، من خلال الصلاة والتأمل وسماع كلمة الكتاب المقدّس يشرحها الكاهن فتقع في القلب كحبة قمح تنمو في الحياة اليومية وتصبح سنابل خلاصي لي ولمن هم حولي.

 

عندها أقدر أن اقول، انا صائم، اشترك في سر آلام المسيح الفادي، فلا تبقى آلامي مقفلة على عدمية النوح والبكاء، بل يشعّ من احلك ظلماتها نور المسيح القائم، عندها ازرع رجاء القيامة، واعطي لألمي، ومرضي وضيقتي، وحتى لسياستي معنى آخر، فرغم حلول الظلام، واليأس المطلق، والخوف الكبير، أعلن رجاء القيامة، أعلن موت منطق قديم وولادة آخر جديد، اعلن رجاء قيامة يسوع المسيح وابتهج: فالموت لن ينتصر.