عظات
٥‏/١٠‏/٢٠١٦ زمن الصوم | الأب بيار نجم ر.م.م

أحد شفاء الأبرص

"وقام قبل طُلوع الفَجر فخَرجَ وذهب إلى مكان مُقفَر وأخذَ يُصلّي هُناك"

يحتل المكان المُقفَر أهميّة كبرى في إنجيل مرقس وفي الأناجيل الإزائيّة، أهميّة نجد جذورها في العهد القديم، لا سيّما في سفر الخروج.

(مر 1 /35-45)

قَامَ يَسُوعُ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْر، فخَرَجَ وذَهَبَ إِلى مَكَانٍ قَفْر، وأَخَذَ يُصَلِّي هُنَاك. ولَحِقَ بِهِ سِمْعَانُ وَالَّذين مَعَهُ، ووَجَدُوهُ فَقَالُوا لَهُ: "أَلْجَمِيعُ يَطْلُبُونَكَ". فقالَ لَهُم: "لِنَذْهَبْ إِلى مَكَانٍ آخَر، إِلى القُرَى الـمُجَاوِرَة، لأُبَشِّرَ هُنَاكَ أَيْضًا، فَإِنِّي لِهـذَا خَرَجْتُ". وسَارَ في كُلِّ الـجَلِيل، وهُوَ يَكْرِزُ في مَجَامِعِهِم وَيَطْرُدُ الشَّيَاطِين. وأَتَاهُ أَبْرَصُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه، فجَثَا وقَالَ لَهُ: "إِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تُطَهِّرَنِي!". فتَحَنَّنَ يَسُوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقَالَ لَهُ: "قَدْ شِئْتُ، فَاطْهُرْ!". وفي الـحَالِ زَالَ عَنْهُ البَرَص، فَطَهُرَ. فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ وصَرَفَهُ حَالاً، وقالَ لَهُ: "أُنْظُرْ، لا تُخْبِرْ أَحَدًا بِشَيء، بَلِ اذْهَبْ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِن، وَقَدِّمْ عَنْ طُهْرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُم". أَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وبَدَأَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ويُذِيعُ الـخَبَر، حَتَّى إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا أَنْ يَدْخُلَ إِلى مَدِينَةٍ عَلانِيَة، بَلْ كانَ يُقِيمُ في الـخَارِج، في أَمَاكِنَ مُقْفِرَة، وكانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَان.

 

إنَّ القَفر أو الصحراء، هو مكان الوحدة، مكان الخطر، تحت رحمة عناصر الطبيعة، الحَرّ والبرد والرمال، في خطر من الوحوش المُفترسة. هو مكان الوِحدة، حيث لا رفيق ولا صديق ولا مُعين عند الحاجة. هو المكان حيث لا ماء تروي الظمأ وحيث الأرض تُبخل بخيراتها على الإنسان الجائع.

 

المكان القفر هو حيث قايين أخرج أخاه إليه فقتله، القفر هو المكان الذي آوى إليه إيليّا هربًا من ظلم الملك وزوجته، القفر هو المكان الذي قاد الربّ شعبه إليه ليحرّره، مكان عانى فيه الشعب الجوع والعطش والخطر، يئس من انتظار الخلاص والخلاص يتأخَّر دومًا، انتظروا صعود موسى إلى الجبل وصنعوا لهم إلهًا آخر، تركوا الربّ بحثًا عن خلاص سهل، فأغرقتهم الخطيئة في عبوديتهم بدل أن ينالوا الخلاص المَرجوّ. الشعب يُخطىء والربّ ينتظر، الشعب يتوب والربّ يغفر، المكان القفر هو مكان الخيانة والتوبة، مكان الحب الجريح والحب الشافي، حُبّ الإنسان المتردِّد وحُب الله الثابت.

 

في البريّة جاع الشعب فأعطاه الله مأكلاً، عطش الشعب فأعطاه الله الماء العذب في صخرة قاسية.

 

هذه هي البريّة، مكان قاسي مُقفر خطر، فيه يكتشف الإنسان مدى حاجته الدائمة لحضور الله في حياته. حيث ينتفي كل رجاء مادّي وإنساني. يتجلّى الله العضد الأوحد والأقدر.

 

البريّة هي مكان العرس الروحي بين الله والشعب، يقود الله الشعب إلى الصّحراء ليعلن له مدى حبّه له ويدخله في العهد مجدّداً، هو مكان الأمانة رغم التضحية.

 

لذلك يعود الربّ إلى البريّة، يدخل في صحراء الوجود الإنساني ليُعلن من جديد أنّه أتى يجدّد الشعب القديم، جاء يعلن للإنسان من جديد أنّ الله لا يزال معه حاضراً في حياته يقوده ويعتني به، وهو وحده قادر على إعطائه الخلاص.

 

يأخذ يسوع في البريّة دور الله ودور الإنسان:

 

-       يخرج المسيح إلى البريّة باسم البشريّة كلها. يذهب إلى البريّة ليصلّي، يعيد بعمله هذا الإنسانيّة كلها إلى علاقتها بالله.

 

هو الظهور الثالث للمسيح في البريّة في إنجيل مرقس:

 

-       يسوع يعتمد من يد يوحنّا في البريّة (1 ، 4)

 

-       يسوع يُخرجه الروح القدس إلى البريّة ليُجرّبه الشيطان (1 ، 12)

 

-       يسوع يخرج مجدداً إلى البريّة للصلاة (1 ، 35)

 

هو موسى الخارج من مياه النّيل حين كان طفلاً ومن مياه بحر القصب المشقوق بيد الله القديرة ساعة الخروج من مصر، هو موسى في الصّحراء أربعين سنة يجرّبه الشرير، يدعوه إلى ترك الله والبحث عن الأسهل، وهو ما سوف يقوم به الشعب بعبادتهم العجل الذهبيّ.

 

هو موسى المُصلّي على الجبل يضرَع من أجل شعبه الخاطىء وينال من الربّ المَغفرة.

 

خروج يسوع إلى البريّة هو إعلان غير مباشر عن هدف مجيئه، هدف "خروجه" لا من كفرناحوم إلى البريّة، بل خروجه أيضًا من حضن الآب إلى العالم: لقد أتى يقود الإنسان من عبوديّة الخطيئة إلى حياة النّعمة بإشراكه في الحياة الإلهيّة.

 

فبحث عنه سمعان ورفقاءه ولمّا وجدوه قالوا له "جميع النّاس يطلبونك"

 

هذه الآية تحمل أيضًا بُعداً تعليميًّا لكي نفهمه يجب أن نعرف الإستعمال المرقسيّ لكلمة "الجميع" وفعل "طلب".  نجد في إنجيل مرقس حَذَراً من "الجمع" أو "الكل"، ونجدها دومًا في موقع يعاكس موقع التّلميذ أو منطق التّتلمذ.

 

فالجَمع لا هويّة له، هم مجموعة من الأشخاص تبعوا يسوع إعجابًا بقوّته ومعجزاته، لا رغبة بالتّتلمذ. هم الجموع بمنطقهم المتناقض وغير الثابت، تارة يتبعونه ويفتّشون عنه، وتارة يصرخون طالبين صلبه. إنَّ تحاشي يسوع للجموع وللمنطق الشعبويّ في إنجيل مرقس يهدف إلى غاية أبعد من الحقيقة التاريخيّة، هي رسالة موجّهة إلى الكنيسة المرقسيّة: دعوة إلى اتّباع يسوع لا بسبب المعجزات والخوارق، لا بسبب الإعجاب العابر، فيسوع ليس ساحراً، ولا بسبب غايتهم الخاصّة، إن كانت الشّفاء أو السّعادة أو كل ما يرغب الإنسان بالحصول عليه. إتّباع يسوع يُبنى دومًا على إيمان شخصيّ وعلى قبول يسوع المتألِّم وحمل صليبه يوميًّا. هذه الجموع التي تحاشاها يسوع هي جموع المعجبين غير المؤمنين، هم الذين رفضوا حقيقة يسوع المتألِّم وصليبه في حياتهم الخاصّة. هي رسالة توَجَّه إلى مسيحي اليوم: أي مسيح يتبع؛ المسيح صانع المعجزات والخوارق أم يسوع المتألِّم والمائت على الصّليب حبًّا بنا.

 

منطق الجموع هو أيضًا منطق الّلاهويّة. هم مجموعة من الأشخاص تبعو يسوع لأنَّهم سمعوا عنه، لم يدخلوا في علاقة شخصيّة معه كما التّلاميذ، لم يصبح لهم إسم كما سمعان وإندراوس ويعقوب ويوحنا الذين سبق فدعاهم في النّص السابق. دعوتنا المسيحيّة للتتلمذ ليسوع المسيح لا يمكن أن تكون دون هويّة، لا يمكن أن أكون تلميذاً للمسيح بناءً على ما سمعته، دعوتي هي التّعرف إليه كل يوم والدخول في علاقة شخصيّة معه، علاقة صلاة، علاقة صداقة، علاقة معرفة وقبول لإرادته في حياتي مع كل ما يمكن أن يتطلبه هذا الأمر من صعوبات.

 

هذا البُعد اللاهوتي والتعليمي يفسِّر هذا التناقض بين معجزات يسوع الكثيرة في اليوم الأول ورفضه العودة إلى المدينة في صبيحة اليوم الثاني، كما يفسِّر العديد من نقاط هذا النّص المُبهمة.

 

كما انّ الفعل الذي يستعمله مرقس zetew، فتِّش يحمل معنى أبعد من مجرَّد التفتيش عن شيء ضائع، هو يعني بحث وتحقّق، تحرّى عن (كما في مر 11، 18) وأيضًا بمعنى ابتغى الشيء وأراد امتلاكه (كما في متى 6، 33 ؛ 26، 59 ؛ لو 22، 6). هو تفتيش اليهود عن يسوع ليمتلكوه لا ليمتلكهم هو، وليهلكوه حين فشلوا في جعله أداة لأهدافهم ولتطلّعاتهم.

 

إتّباع يسوع لا يكون بامتلاكه، فالمعلّم هو مالك التّلميذ، ويسوع لا يمكننا أن نمتلكه يومًا بمنطقنا البشريّ وبعقلنا المخلوق. علاقتنا بيسوع هي علاقة حُب، والحُب لا يُمتلَك، الحُب هو أن يضع المرء ذاته في تصرُّف الحبيب، واثقًا به، مؤمنًا به، ومفتِّشًا عن خدمته.

 

لهذا خرجت: إنّ فعل Exerxomein المؤلَّف من Ex: خارج،  و Epxomai: آتٍ، يُعَبِّر عن حالة خُروج ليست فقط مكانيّة إنّما خاصّة كيانيّة. هو المسيح الخارج ليس فقط من كفرناحوم، إنّما هو المسيح الكلمة الخارج من حضن الآب إلى العالم حاملاً إليه كلمة الخلاص. يعبّر هذا الفعل عن هويّة المسيح المُرسَل والنبيّ، الآتي إلى العالم ليُعلِن لهُ إرادة الآب ويتمِّم الخلاص. هذا ما يُظهر محتوى الآية 38، "فإنّي لهذا أتيت"، أتى يحمِل الخلاص لمن هُم بعيدون عن الآب ليُعيدهم إلى علاقة البنوّة ويجدِّد العهد في قلوبهم.

 

 "فذهب إلى جميع نواحي الجليل": الجليل هو مكان مرذول بالنسبة ليهود الجنوب، فالجليل هو جليل الأمم، جليل الوثنيّين، وأهل الجليل هم في علاقة دائمة بأهل فينيقيا والشعوب المجاورة، ومن خلال علاقات التّجارة تدخل الآلهة الغريبة. يسوع يخرُج إلى الشعب المُهمَّش، الخاطىء، الموصوم من قِبَل أهل اليهوديّة بأنَّه شعب الأصنام. شعب خاطىء خائن ليهوه إله العهد.  خروج يسوع الى الجليل هو إعلان لإرادة الله في التفتيش عن الأكثر تهميشًا، الشعب المُهمَّش.  شعب الشمال يسترعي اهتمام يسوع، وفي داخل هذا الشعب نفسه يسترعي اهتمام يسوع صرخة رجُل مُهمَّش، الرجل الأبرص يتَّجه إليه صارخًا: "إن شئتَ أنت قادِر أن تُطَهِرني".

 

"فجاء إليه رجل أبرص": البرص، أكثر من الأمراض الأخرى كلّها، كان المرض الأكثر خطورة بالنّسبة لكل المجتمعات القديمة. وكان ناموس العهد القديم يفصِل الأبرص عن المجتمع جسديًّا وروحيًّا، فلا يُمكنه أن يسكن في المدينة ولا يحقّ له المشاركة في صلاة الجماعة.

 

يَنُصّ كتاب اللاويّين على أن: "والأبرَصُ الذي بهِ البَلوى يَلبَسُ ثيابَهُ مَشقُوقةً، ويكشِفُ رأسَه، ويُغَطِّي شاربَيهِ ويُنادي: نَجسٌ، نَجسٌ. ما دامت بهِ البَلوى يكونُ نَجسًا، ويسكُنُ مُنفرِدًا وفي خارِج المَحلَّةِ. " (13، 45-46). كان البَرَص يُعتَبَر لعنة من الله تُصيب الإنسان الخاطىء، والأبرص كان إنساناً مَرفوضًا من الجميع، مُهمَّشًا، لا يُلمِسُ أحداً ولا يُلمَسْ، فكلّ من مَسَّ جِسمه يُصبح بدوره نجِسًا لا يقترب من الجماعة ولا يُقرِّب الذبائح.

 

المرض يتكفَّل بموت الجسد، والنّاموس يأخُذ على عاتقه موت الرّوح والهويّة. البَرَص حرمَ هذا الرجل حقوقه الإجتماعيّة والإنسانيّة والروحيّة، تحوَّل من فَرْد إلى عدوّ، من كائن حيّ مندفع نحو مستقبل إلى ميت حيّ يموت كل يوم رويداً رويداً، يهترىء جسده بسبب البرص وتموت روحه من قسوّة الإخوة. شبيه بمَيْت متعفِّن، ممزَّق الثياب، أشعث الشعر، يخفي لحيته علامة الحِداد، يُعلن الحِداد على ذاته لأنَّه صار مَيْت، وما من أحدٍ يلبس الأسود حِداداً عليه.

 

"إن شئتَ فأنتَ قادِر أن تُطَهِّرني": ما يُمَيّز هذا الأبرص عن الحُشود التي تتبع يسوع هو الإيمان والإتّكال. بكلماته القليلة أعلن الأبرص إيمانًا كبيراً، أعلن عن قُدرة يسوع على شفاءه، إنّما أعلن أيضًا عن ثقته بإرادة الربّ التي تقود وجوده. لم يقل "إشفني" بل أعلن عن إيمانه بقدرة الربّ وتَرَك له حريّة التصرُّف.

 

يقدِّم مرقس في هذه الآية مثالاً للتلميذ:

 

-       إيمان بقدرة الله على العمل في حياة الإنسان.

 

-       ثقة بإرادة الله وعنايته، يؤمن التلميذ بقدرة الله على تغيير واقعه، إنّما يعرف أيضًا أنّ طُرُق الربّ لا تُسبَر ووسائله لا تُعَدّ. المؤمن هو الكائن الذي يضع ذاته رهن إرادة الله واثقًا بقدرته إنّما خاصةً بعنايته وبجوده مخطّط الله في حياته.

 

-       أمّا الجمع فهم يتبعون يسوع فقط لينالوا المعجزة، ليحصلوا على ما يريدون، لا يقدرون على تمييز إرادة الربّ ومخطّطه، يريدون مخطّطًا على قياسهم وبحسب رغباتهم: أرادوه مُحَرِّراً من حُكم الرومان لهم، أرادوه ملكًا زمنيًّا يُعيد الحكم إلى إسرائيل، رغبوا به ثائراً على رأس عصابة من عصابات يهود ذلك الزمان يُغِيرون على قوافل الرومان وعساكرهم ليقتلوا ما قدّر لهم أن يقتلوه. وغابت عنهم إرادة الربّ ذاته، رفضوا الملك الوديع وملك السلام، لم يثقوا بحقيقته هذه فأسلموه للموت، صرخوا بصوت واحد، قضوا أيّامهم أفراداً لا يجمعهم الواحد بالآخر شيئاً، وما وحَّدهم في النّهاية شيء إلاّ رغبتهم في إبادة حاكم غير نافع، فصرخوا بصوت واحد: "اصلبه".

 

"أشفق عليه يسوع"، إن الفعل المُستعمل SPLANXIZOMAI بمعناه الأصلي إنفتاح الأحشاء، وبنوع أخص رحم الإمرأة، وهي ترجمة للكلمة العبريّة REHAMIM الرحمة، الشفقة وهي بدورها مشتقة من كلمة رَحَم الإمرأة.  يتخطّى المعنى اللاهوتي لهذه الكلمة معنى الشفقة السطحي والعابر، فهي تعبِّر عن فِعل إعطاء حياة جديدة، هو الله الذي يرحم، أي الذي يخرج من رحمه الإنسان المُحتاج إلى حياة جديدة.

 

ومَدَّ يده ولمسه وقال له: "أريد فاطهر".

تعبِّر هذه الآية بأسلوبها الأدبي السريع عن رغبة يسوع في شفاء الأبرص. لم يأخذ وقته في التفكير، لم يبدأ بالكلام، بل باشر العمل دون مقدمة. مدَّ يسوع يده ولمسه مخالفًا شريعة موسى ظاهريّاً إنّما متمِّمًا إيّاها بالفعل. لم يكن من الممكن لمس الأبرص دون التعرُّض للنّجاسة والفصل عن حياة الجماعة لغاية تتميم فروض التطهير، ولكن الشريعة أعلنت أن الله لا يريد هلاك الخاطىء بل توبته، أشارت إلى أن الله هو الذي يأتي يشفي جراح الإنسان ويعيده إلى العلاقة الأصليّة. لقد مدَّ يسوع يده ولمسه، داوى الربّ المريض أولاًّ روحيًّا وإنسانيًّا، فألَم الأبرص الأكبر لم يكن المرض بقدر ما كانت العزلة والرفض. كم من سنين مضت دون أن يلمسه أحد؛ وكيف يُلمَس وهو النَّجِس؛ لقد شفى الربّ هذا الإنسان من وحدة قلبه بلمسه، أعاده إلى داخل المُجتمع إذ أعاد ربط علاقة قد انقطعت منذ زمن. لقد لمس يسوع الأبرص كما لمس الآب الخالق آدم وأخرجه من التراب، هي اللمسة الإلهيّة تُعطي الإنسان هويّته الحقيقيّة، تجعله ملموسًا من قِبَل الله، صديقًا له، يدخل في علاقة معه.

 

"قد شئت فأطهر": إنّه فِعل الإرادة، فالله يرد شفاء الأبرص منذ لحظة مرضه، إنّما كان ينتظر طلب الأبرص وإرادته، فالرب يريد ولكنه لا يقدِر إن لم يفتح الإنسان باب قلبه له ويطلب إليه الدخول.

 

فاطهر: لم يقُل يسوع اشف، كما أنَّ الأبرص لم يطلُب الشفاء بل التطَهُّر. هو فِعْل ليتورجي ديني لا فِعْل يُستَعمَل في إطار الطُب. الشفاء الحقيقي، مثل الطلب الحقيقي، كان أن يدخل الأبرص من جديد إلى العلاقة مع الله ومع المجتمع من خلال الجماعة المصلّية.

 

 "فانتهره يسوع وصرفه":  هذه القساوة التي يُعطيها مرقس ليسوع هي ذات بعد لاهوتي، هو يسوع الذي يحذِّر الأبرص من إعلان هويّته، فالخطر الأكبر هو أن يُعلَن المسيح للبشر كالمسيح الشافي، مجترح المعجزات والشافي، المتكلِّم بسلطة، ويُهمَّش المسيح المصلوب، المتألَّم.  الخطر، كل الخطر، هو في إعلان مسيح منتصر وإهمال المسيح المصلوب. إنَّ حقيقة يسوع لا تُعتَلَن بملئها إلاّ فوق الصليب، وعلى تلميذ المسيح أن يؤمن به متألِّمًا مائتًا على الصليب وقائمًا. لذلك ينتهي الإنجيل الأصليّ لمرقس بالنّساء العائدات من القبر، فعلى التلميذ أن يختبر حدث موت المسيح وقيامته في حياته الخاصة، عليه أن يقبل سِر الألم وأن يؤمِن بإله متألِّم، مصلوب، وقائم من بين الأموات وليس فقط إلهًا مجترح معجزات، وإلاّ يبقى إيمان التلميذ ناقصًا.

 

أمر يسوع الأبرص الطاهر أن يذهب إلى الكاهن للشهادة ولتقديم ما أمر الناموس به. إن يسوع المسيح هو الإله الثائر على ظلم البشر في تطبيقهم للناموس بشكل قاسي، إنّما هو لا يرفض الناموس، فالكتاب المقدّس هو كلام الله وكلام الله لا يُنقَض. الناموس الذي يأمُر الأبرص بالإبتعاد عن الجماعة هو نفسه الذي يعطيه فرصة العودة من جديد، لا يقطع الكتاب المقدس طريق العودة إلى الآب، بل هو كتاب دعوة إلى تطهُّر دائم في سبيل العودة إلى صداقة الله.

 

إنّما الأبرص ذهب يُعلِن للجميع ما حدث له، فمن الصعب إخفاء فرح تدخُّل الله في حياتنا، إنّما الخطر يكمن في قبول الله فقط لأنَّه الشافي، قبول الله في لحظة فرح ثم ننسى أعماله ومعجزاته ما أن نعود إلى حياتنا اليوميّة.

 

الجموع التي تتبع يسوع من أجل معجزاته قد وجدت في كلمات الأبرص ما يزيد فضولها واندفاعها. هذه الجموع لم تتعرَّف حتى الآن على يسوع الحقيقيّ، بل هي مجموعة تفتِّش عن حلول سهلة لحياتها، عن مُعجزات، هم ليسوا حتى الآن تلاميذ يسوع بل طلاّب مُعجزات، وبهذا المَنطق لن يمكنهم أن يكتشفوا يسوع في حياتهم.

 

التأمّل:

في هذا الأحد الأوّل بعد أحد مدخل الصوم، نتأمّل في إنجيل له بُعْد رمزيّ عميق لصومنا.  إن هذه الفترة التي نعيشها هي ليست مجرّد انقطاع عن المآكل، إنّما هي بدرجة أولى فترة تطهُّر، فترة فحص ضمير وتأمّل في حياتنا، ندرك أن برص الخطيئة يُبعدنا كلّ يوم عن الله، نصبح مثل هذا الأبرص، دون علاقة مع الله، لأنّنا بإرادتنا قرّرنا الإنفصال عنه وفَضَّلنا الشّر.  نجد أنفسنا منفصلين عن الكنيسة، جماعة القدّيسين، لأنّ الحياة المسيحيّة هي حياة سعي إلى القداسة، واختيار دائم لله في حياتنا.  وأخطر ما في الخطيئة هي أنّها تجعلنا ننغلق على ذواتنا، مِثل الأبرص في عزلته، تجعلنا نتقوقع على فقرنا وعزلتنا، على جراحنا وخطيئتنا، على تعاستنا ويأسنا.  نحيا في حالة موت دائم ونعلم أنّ حياتنا هي في المسيح وفي الجماعة، نعلم ولا نبادر، تنقصنا الشجاعة لنعترف بخطأنا، ونعود.  المسيح يريد أن يشفينا، ينتظرنا، كما انتظر كلمات الأبرص فلمسه.  الصوم هو تفتيش عن لمسة المسيح في حياتنا، ننالها من خلال معرفة محدوديّتنا وخطيئتنا، ننالها بفعل ثقة وإيمان.

 

كلّ واحد منّا يجد ذاته في صورة هذا الأبرص، إنّما كلّ واحد منّا يمارس قسوة الجماعة التي تفصل الخاطىء ايضاً.  كم من الأشخاص هم اليوم مثل هذا الأبرص في حياتنا وفي مجتمعنا؟ كم من الأشخاص نهمّش ونعزل؟ نترك الخاطىء خارج باب قلبنا، لأنّه خاطىء، نُهمّشه بحكمنا الفرديّ والجماعيّ، نزيد ألم جراحه بعزله.  كم من الأشخاص يموتون روحيّاً كلّ يوم لأنّنا نتركهم وحيدين؟ نعزلهم لأنّ في ماضيهم وصمة ما، نتحاشاهم لأنّهم قد اقترفوا خطأ ما، لأنّ المجتمع يَصِمَهم بوَصمة ما، وَصمة غفرها المسيح ولا نزال نذكرها نحن.  نعزل الآخر لأنّه مختلف، لأنّه يخالفني الرأي والمعتقد أو السياسة أيضاً؟ ننتقد مجتمع إسرائيل البدائي ومجتمعاعتنا المتمدّنة تمارس عزلاً وتهميشاً أخطر وأشمل: كم من فقراء يعانون الجوع والبرد؟ كم من أيتام وأرامل لا يُعارون اهتماماً؟ كم من مرضى في مستشفيات لا يزورهم أحد؟ كم من أشخاص حولنا يحتاجون الى مجرّد لمسة، الى كلمة تعزية وتشجيع، إلى أن نذكّرهم أنّهم ليسوا وحيدين في العالم، فالله إلى جانبهم من خلالنا؟ لا نخافنّ حُكْم المجتمع في وقفتنا إلى جانب من وصمه المجتمع بعلامة سوداء، فدينونة السيّد سوف تكون: "ماذا فعلت لإخوتي الصغار؟".

 

الصوم هو فترة تطهّر وتنقية للذات من كلّ برص خطيئة، هو زمن عودة إلى المسيح، هو سماع المسيح يقول لكلّ واحد منّا: "إذهب إلى الكاهن وأرِه نفسك، وأدّ التكفير".  إيماننا المسيحيّ لا يكون بمعزل عن الوصايا وعن الجماعة، فالمسيح يقودنا دوماً نحو الجماعة، نحو الكنيسة، نحو الكاهن.  إيماننا ليس إيماناً فرديّاً، وتوبتنا ليست فرديّة أيضاً، فالخطيئة التي جرحت جسم الكنيسة بأسره تنال الغفران من خلال سرّ الكنيسة نفسه.  نجرح الجماعة بشرّنا ونسمع منها، عبر الكاهن، كلمات المغفرة.  لا نخفي كبريائنا أو خجلنا بستار العلاقة المباشرة مع يسوع، بقولنا: "أعترف بخطيئتي مباشرة لله"، فالكنيسة هي استمراريّة لحضور السيّد، والأسرار هي وسيلة تقديس، والتوبة والإعتراف هما فعل تواضع، فعل ثقة بقدرة الله على المغفرة وبرحمة الإخوة أيضاً.  الكنيسة هي واحة حبّ، ومكان مغفرة دائمة.  أنا مدعوّ لأنّ اؤديّ الكفّارة عن خطيئتي، بالصلاة والتكفير والتوبة، وبعمل الرحمة نحو الآخرين: " إن الصدقة، تجعلنا قريبين من الآخرين، تجعلنا قريبين من الله ويمكنها أن تتحوّل إلى أداة حقيقيّة للتوبة وللمصالحة معه ومع الإخوة " (البابا بندكتوس السادس عشر، رسالة صوم 2008).

 

الصوم هو انتقال من حالة واحد من مجموعة إلى حالة تلميذ للمسيح.  في فترة الصوم نفحص معنى إيماننا، ومعنى علاقتنا بالسيّد:  لماذا أتبعه؟ ألأنّه قادر أن يشفيني؟ ألأنّه يعطيني ما أريد؟ ألأنّه يصنع المعجزات؟ هي كلّها صفات الجموع، تتركني دون هويّة، دون علاقة شخصيّة بيسوع المسيح.  دعوتي هي أن أكون تلميذاً لا فرداً من مجموعة، التلميذ يثق بيسوع وبمخطّط الله في حياته، يقبل صليب يسوع في حياته برجاء وثقة.  الفرد هو تاجر، يؤمن بيسوع يلبّي رغباته، والتلميذ هو صديق، يعلم أن يسوع حاضر دوماً يرافق وينمّي وينير الطريق.