عظات
١٢‏/١٠‏/٢٠١٦ زمن القيامة | الأب بيار نجم ر.م.م

أحد القيامة المجيدة

لقد اختارت الكنيسة المارونيّة التأمّل في رواية القيامة بحسب الإنجيليّ مرقس، وهو الإنجيل الأقدم، الّذي بقي يحتمل طابع بساطة الأحداث الأولى دون الكثير من التطوير اللاهوتيّ والرمزيّات الكتابيّة.  هو الحدث الأوّل ببساطته، بقلّة تفاصيله ودلالاته اللاهوتيّة وبإنسانيّته العميقة.  هو الإنجيل الّذي يُختَتَم في الأصل لا برواية المعجزات والظهورات والمشاركة في الطعام والسير على المياه.  لا يورد أخبار الظهور في العليّة بشكل مفصّل ورواية شكّ توما، لا أثر لحديث الرّب القائم مع المجدليّة صبيحة القيامة، بل هو إنجيل يفاجئنا، يصدمنا، يشكّكنا أحياناً، فهو ينتهي بحادثة الهروب من واقع القيامة، بعدم الإستجابة الى طلب الملاك للنسوة بأن تذهبن الى الإخوة وتقلن لهم أن الرّب قد قام وهو يلاقيهم في الجليل، فالنسوة بقين صامتات لأنّهنّ كنّ خائفات.  هي حقيقة إنسانيّتنا واقفة أمام واقع القيامة، تريد الإيمان وتهرب من الإعلان، تؤمن وترفض في آن معاً، إنسانيّة تذهب لتحنيط السيّد، تريد إكرامه في جسده التاريخيّ، وتخاف من حقيقة وجوده القائم المنتصر.  إن رواية القيامة في إنجيل مرقس هي رواية إنسانيّتنا، ورفضنا، وخوفنا وهربنا، هو النصّ الأقرب الى ضعف بشريّتنا والى قدرة الله يدخل في التاريخ ويتألّم، يموت ويقوم لتحريرنا من واقع الخوف والهروب من وجه السيّد.

(مر 16 /1-8)

لَمَّا انْقَضَى السَّبْت، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّة، ومَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوب، وسَالُومَة، طُيُوبًا لِيَأْتِينَ وَيُطَيِّبْنَ جَسَدَ يَسُوع. وفي يَوْمِ الأَحَدِ بَاكِرًا جِدًّا، أَتَيْنَ إِلى القَبْرِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْس. وكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: "مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الـحَجَرَ عَنْ بَابِ القَبْر؟". وتَفَرَّسْنَ فشَاهَدْنَ الـحَجَرَ قَـ دْ دُحْرِج، وكَانَ كَبِيرًا جِدًّا. ودَخَلْنَ القَبْر، فَرَأَيْنَ شَابًّا جَالِسًا عَنِ اليَمِين، مُتَوَشِّحًا حُلَّةً بَيْضَاء، فَانْذَهَلْنَ. فَقَالَ لَهُنَّ: "لا تَنْذَهِلْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الـمَصْلُوب. إِنَّهُ قَام، وَهُوَ لَيْسَ هُنَا. وهَا هُوَ الـمَكَانُ الَّذي وَضَعُوهُ فِيه. أَلا اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلامِيذِهِ وَلِبُطْرُس: إِنَّهُ يَسْبِقُكُم إِلى الـجَلِيل. وهُنَاكَ تَرَوْنَهُ، كَمَا قَالَ لَكُم". فَخَرَجْنَ مِنَ القَبْرِ وَهَرَبْنَ مِنْ شِدَّةِ الرِّعْدَةِ والذُّهُول. وَمِنْ خَوْفِهِنَّ لَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئًا...

 

 

تحليل النّص:

ولَمَّا انقَضَى السَّبتُ اشتَرَت مَريمُ المِجدَلِيَّة ومَريمُ أُمُّ يَعقوبَ وسالومة طِيباً لِيَأتينَ فيُطَيِّبنَه:

 

السبت،السادس عشر من شهر نيسان، نهار الراحة المقدّس ينتهي عند غروب الشمس.  هو إذا نهار الأحد.  في اليوم السابق شهدت هذه النسوة الثلاثة على موت يسوع وقبره (15، 40. 47) اشترين طيباً ليحنّطن يسوع.  ولا نفهم هنا التحنيط بمعناه المصرّي القديم، فهذا الأمر لم يكن موجوداً عند اليهود، بل كانت العادة أن يُطيًّب جسم الميت بزيت عَطِر علامة محبّة وإكرام أكثر منها رغبة في المحافظة على الجسد دون فساد.

 

وعِندَ فَجْرِ الأَحَد جِئنَ إِلى القَبْرِ وقد طَلَعَتِ الشَّمْس: بعد طلوع الشمس بقليل إنتقلت النسوة الى القبر، ربّما تجنّباً للخطر، فالتلاميذ إختبأوا في أورشليم خوفاً من اليهود، أمّا النسوة فكنّ قادرات على التحرّك بحريّة أكبر، إذ لا يمكن للنسوة أن يُعبروا خطراً سياسيّاً أو محرّضات على الفتنة.

 

لقد كانت النسوة الثلاث عالمات أن القبر مُحكم الإغلاق بحجر كبير، فهذه هي العادة اليهوديّة بالإجمال، والنسوة قد شاركن في دفن يسوع السريع في اليوم السابق.

 

إن القبر اليهوديّ كان يتكوّن عادة من مغارة تحتوي على غُرف داخليّة، يوضع الجسد فيها مُمدَّداً على حجر أو صخرة ويُلفّ بكفن من الكتّان ويلفّ الرأس بقطع قماش مستقلّة عن الكفن وتُغلق المغارة بصخرة مستديرة كبيرة.  يُترك الجسد هناك الى أن يرمّ ويضحي عظاماً، وبعدها تنقل العائلة العظام وتضعها في ناووس جدريّ صغير أو في مكان جانبيّ.  وكان الجسد يُطيَّب قبل الدفن عادة، إنّما لأن دفن يسوع كان نهار السبت العظيم، أي سبت الفصح اليهوديّ، ولا يجوز للجثّة أن تبقى معلّقة على الصليب طيلة الفصح، تمّ دفن يسوع بطريقة سريعة ومختصرة، ممّا أضطرّ النسوة للعودة بعد العيد لإتمام مراسيم التطييت بحسب الأصول المتّبعة.

 

وكانَ يَقولُ بَعضُهُنَّ لِبَعض: "مَن يُدَحرِجُ لنا الحَجَرَ عن بابِ القَبْر ؟"فنَظَرْنَ فَرأَيْنَ أَنَّ الحَجَرَ قَد دُحرِجَ، وكانَ كبيراً جِدّاً.  لا يبدو أن النسوة بحسب رواية مرقس كنّ عالمات أن القبر كان موضوعاً تحت حراسة الجنود كما يورد الأنجيليّون الآخرون، والعائع الوحيد أمامهم كان كيفيّة دحرجة الحجر.  لا بدّ أنّ الحجر كان كبيراً جدّاً، فالنص اليونانيّ يقول حرفيّاً " فنَظَرْنَ فَرأَيْنَ أَنَّ الحَجَرَ قَد دُحرِجَ، لأنّه كان كبيراً جِدّاً "  أي أن النساء قد عرفن أنّه دُحرِجَ بينا كنّ لا تزلن بعيدات، واستطعن رؤية الحجر المدحرج بسبب حجمه.

 

فدَخَلْنَ القَبْرَ فأَبصَرْنَ شَابّاً جَالِساً عنِ اليَمينِ عَلَيه حُلَّةٌ بَيضاء فَارتَعَبنَ.  لقد دخلت النساء القبر ووصلن الى الغرفة الخارجيّة التي توصل الى قبر يسوع، وهناك أبصرن الشاب جالساً "عن اليمين".  يمين مَن؟ على الأرجح يمين النسوة، إذ لم يصلوا بعد الى مكان دفن يسوع، ولن يبصروا القبر الفارغ إلاّ بعد دعوة الملاك لهم للدخول والنظر.

 

لا يستعمل مرقس كلمة "ملاك" بل شاب عليه حلّة بيضاء.  هذه الحلّة البيضاء نفسها تحمل بعداً رمزيّاً، فالأبيض هو اللون السماويّ كما نجد في مرقس 9، 3. (راجع رؤ 7، 9. 13؛ 2مك 3، 26)

 

بعكس لوقا ويوحنّا حيث نجد ملاكين، مرقس يورد وجود ملاك واحد.  لقد شدّد الإنجيليّيَن الآخَرَين على العدد اللازم لصدق الشهادة:  لقد وجدت النسوة شاهدين، وبالتالي فالشهادة صحيحة قانونيّاً، أمّا مرقس فشدّد على البعد الإلهيّ، على التدخّل من قبل الله لإيصال رسالة للإنسان، كما في نصوص العهد القديم.

 

"فارتعبن": يستعمل مرقس وحده في العهد الجديد هذا الفعل، وهو بغاية القوّة والأهميّة، لأن حالة الخوف القويّ هذه سوف تختم الرواية بأسرها وتقود النسوة الى الهروب وعدم إعلان رسالة الله بواسطة رسوله.

 

 لا تَرتَعِبنَ ! أَنتُنَّ تَطلُبْنَ يسوعَ النَّاصريَّ المَصْلوب. إِنَّه قامَ وليسَ ههُنا، وهذا هو المَكانُ الَّذي كانوا قد وضَعوه فيه:  يستعمل مرقس الفعل ذاته مجدّداً، والدعوة الى الثقة وعدم الخوف هي دعوة مسيحانيّة، ويسوع استعلها مرّات عدّة مع تلاميذه.  دعوة الملاك النسوةَ الى عدم الخوف هي إعلان غير مباشر أن الرسالة التي يحملها تأتي من يسوع نفسه، وأن قيامة الرّب هي استمراريّة لعمله على الأرض، والدعوة الى عدم الخوف لا تزال مستمرّة.

 

لقد كانت النسوة في هذه الأثناء تفتّش عن جسد يسوع، والملاك يستعمل صيغة المضارع: الّذي تفتّشون عنه.  لم تستوعب النسوة ما يتمّ وما يقوله الملاك، كنّ يفتّشن بعين الجسد عن يسوع الميت ليطيّبنه ويرحلن الى بيوتهنّ لتستمرّ حياتهنّ كما كانت قبل لقائهنّ بالسيّد.  جواب الملاك يضعهن أمام تناقض، ويقفل أمامهنّ إمكانيّة أن يجدن يسوع بواسطة النظر واللّمس، بل فقط بعين الإيمان يمكن للإنسان أن يدرك حقيقة ما تمّ في تلك الليّلة السابقة، لذلك يرشد الملاكُ النسوةَ الى حيث كان يسوع ويظهر لهنّ القبر الفارغ.  هذه هي الدلالة الوحيدة، تأكيد غير حسيّ، غير منظور، غير منطقيّ، يحتاج الى الثقة، يحتاج الى الإيمان.  إن يسوع الآن قد انتقل من التاريخ الى الإيمان، لم يعد يسوع التاريخيّ وحده، بل صار يسوع الإيمان، يسوع الّذي لا يمكننا أن نلمسه كما لمسته النازفة إلاّ بلمسة الإيمان، ولا يمكنن ليوحنّا أن يتكيء رأسَه على صدره إلاّ بواسطة المحبّة، دون البحث عن ضمانات وعن تأكيد ملموس وعلميّ، "فللقلب تأكيدات لا يمكن أن للعين الجسديّة أن تقدّمها".

 

فَاذهَبنَ وقُلنَ لِتَلاميذِه ولِبُطرس: إِنَّه يَتَقَدَّمُكم إِلى الجَليل، وهُناكَ تَرَونَه كَما قالَ لكم. إن التشديد على دور بطرس هو لثلاثة أسباب في إنجيل مرقس:

 

-          أوّلاً لأن مرقس قد أخذ أخبار القيامة في بطرس نفسه، لأنّه كان مرافق بطرس.

 

-          ثانياً بسبب الدّور الّذي كان لبطرس منذ الكنيسة الأولى، لأنّ الرّب قد جعله ذا دورٍ محوريّ في جماعة الرسل، يثبّت الآخرين في الإيمان.

 

-          هو جواب على نكران بطرس للمسيح، وإعلان له ان نكرانه قد غُفِر، فهو لا يزال ضمن جماعة الرّسل.  من خلال كلمة الملاك هذه، أعلن الرّب أن بطرس لا يزال تلميذه، لقد غفر الرّب له خيانته.  في 14، 29 يؤكّد بطرس أنّه لن ينكر الرّب ولو أنكروه كلّهم، بعد أن قال لهم أنّه بعد قيامته يسبقهم الى الجليل.  هي تذكير لبطرس بهذا الحدث وتأكيد له انّ الخيانة قد غُفرت.

 

رسالة الملاك هي تتميم لوعد يسوع لتلاميذه في 14، 28 "بَعدَ قِيامَتي، أَتَقَدَّمُكُم إِلى الجَليل".  الرّب لا يزال يتقدّم الرّسل.  فعند دعوة يسوع للرسل الأوّلين على شاطئ الجليل قال لهم: "سيروا خلفي"، والآن بعد القيامة لا يزال يتقدّمهم، لا يزالون مدعوّين للسير خلفه، لإتّباعه.  لقد اختلف واقع السيّد الآن، فهو يسوع الحاضر في حياة المؤمن، في حياة التلميذ، يعلن ذاته المعلّم الأوحد ويدعو التلاميذ الى اتّباعه في طريق أصعب من الطريق الأولى، فهو الحاضر الغائب، هو المعلّم الّذي لا يمكنني أن ألمسه بعد اليوم بيدي إنّما بإيماني وبثقتي بحضوره في حياتي يسير أمامي ويقودني نحو الخلاص.  بعد القيامة دعا الرّب الرسل الى مكان اللقاء الأوّل، هو يكمل ويتمّم مسيرة التتلمذ، يعلن لهم أسمى درجات التتلمذ: أن يكونوا أوفياء للعهد الّذي قطعوه له ذاك النهار في الجليل بأنّ يسيروا خلفه، بأن يعتنقوا مبادئه وينشروا إنجيله.  الآن يدعوهم الى إكمال عمله ونشر رسالته بين إخوتهم، يدعوهم لأن يكملوا مسيرة التبشير ويعلنوا إنجيل المسيح القائم من بين الأموات.

 

 فخَرَجْنَ مِنَ القَبْرِ وهَرَبْنَ، لِما أَخَذَهُنَّ مِنَ الرِّعدَةِ والدَّهَش، ولَم يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيئاً لأَنَّهُنَّ كُنَّ خائِفات.

 

هو ردّ فعل الأنسان الإعتياديّ على حادثة تفوق بطبيعتها قدرة العقل على الفهم والتصوّر.  فإزاء تجلّي الرّب خاف بطرس ولم يعد يعرف ماذا يقول (9، 6)، هو خوف التلاميذ عند تهدئة العاصفة (4، 41) وخوفهم حين رأوا الممسوس قد شُفي (5، 15)، وخوف النازفة حين علمت ما تمّ معها (5، 33).  هو الخوف حين يقف الإنسان وجه الى وجه أمام ما يتخطّى الواقع البشريّ، هو خوف الدخول في علاقة مع الألوهة، هو خوف لقاء الرّب الّذي نجده أيضاً في العهد القديم، إنّما هو خوف جعل من النسوة غير قادرات على إتمام إرادة الرّب في حياتهنّ.  هي مشكلة الإنسان المؤمن في كلّ زمان ومكان، يخاف من مستلزمات إيمانه والتضحيات التي يتطلّبها، يخاف من عدم أهليّته، يخاف من تغيير حياته وفقدان كماليّاته.  هو الأنسان المدعوّ الى التضحية ليعلن لقاء الرّب في حياته والبشارة التي حملها منه شخصيّاً.

 

  التأمّل:

هو يوم الخلق الجديد، هو يوم المنطق الجديد، يوم التحديّ والدعوة الى التتلمذ الحقّ. هي صعوبة منطق القيامة وأهمّيته: لا ضمانات ملموسة، وحده كلام الرّب يكفي، والقبر الفارغ يشهد.

 

في مسيرة النسوة نحو القبر تلك الصبيحة نجد درب تتلمذنا للمعلّم القائم من بين الأموات:

 

-          مثل النساء، نسير حاملين في حياتنا طيوباً نجعلها على جسد يسوع التاريخيّ.  نفتّش عن يسوع نلمسه، نتكلّم معه، يشفي أمراضاً، يعطينا أجوبة على اسئلتنا وحلولاً لأمراضنا المستعصيّة.  نبحث عن يسوع صانع المعجزات والمتكلّم أشياء جديدة.  نسير نفس طريق اليوم السابق، يوم الدفن، رأينا أين وضعوه، ونأتي اليوم لنكمل مسيرة الدفن.  لقد أتت النساء لتبكين يسوع، فعاينّ مجد قيامته وهربنَ مرتعدات.  كم من المرّات نبقي يسوع راقداً في ظلمة قبورنا، نؤمن به، نحبّه، نكرمه ببضعة صلوات ونطيّبه برائحة بخور،إنّما نحيا كأشخاص لا يؤمنون بالقيامة.  يبقى يسوع في نطاق العاطفة، في إطار الذكريات الجميلة، في واقع الخوف ربّما والوسواس، ونبقى خارج القبر واقفين، نرفض التصديق.  فيسوع الميت هو رجل سهل، غير متطلّب، نحبّه ونكرمه، ونبقيه ميتاً، أمّا المسيح القائم من بين الأموات فهو المعلّم المتطلّب، يدفعنا دوماً الى التضحية، لا يقدّم لنا درباً سهلة بل يقودنا الى حياة جهاد وبطولة، الى حياة التتلمذ، الى القداسة.  هذه الدرب تتطلّب تضحيات، وممنوعة فيها أنصاف الحلول.

 

-          لقد كنّ سائرات في الطريق يتسائلن من علّه يزيح لهنّ الحجر عن باب القبر.  لم تذهب النساء الى يسوع بمنطق القيامة، بل بمنطق ضعف وتردّد إزاء العائق الّذي يفصلهنّ عن جسد يسوع.  "من علّة يساعدنا واليوم صبيحة عيد، والشمس لم تشرق بعد، والحجر كبير جدّاً".  في مسيرة النسوة نحو القبر بصيص رجاء، لقد ذهبن مترجّيات أن أحداً ما سوف يزيح الحجر.  هذا الأحد لم يكن بالنسبة لهنّ الرّب ذاته، بل إنسان آخر يقدّم حلولاً عابرة.  كنّ يبحثن عن هذا الأحد والرّب عينه كان قد قدّم الحلول.  كم من المرّات نحن أيضاً على دروب حياتنا نفتّش عن الخلاص يأتينا من البشر، من قوّة الإنسان أو المادّة أو الجمال أو السلطة، لنزيح أحجار المشاكل العظيمة عن قلوبنا، فنفشل في إيجاد من هو قادر، ونكتشف أن الرّب كان يعمل، وهو القادر على إعطاء الحلّ. الرّب لم يفتح باب القبر ليعيد إغلاقه من جديد، الرّب يعطي الحلّ الجذريّ والنهائيّ وهو وحده القادر على إزالة حجر الموت عن عقولنا وقلوبنا.

 

-          القيامة دعوةٌ لقبول ما لا يُفهَم على نور العقل، هي دخول في علاقة مع إله قائم من بين الأموات يتحدّانا لا لنؤمن بقيامته فحسب، بل لنحيا واقع القيامة في حياتنا اليوميّة.  إن كنّا نؤمن بربّ قائم من بين الأموات، فلا بدّ أن نعلن واقع القيامة هذا في حياتنا اليوميّة.  أن أحيا القيامة كلّ يوم يعني أن أنتصر على الخوف من المجهول يكبّلني، يعني أن أعلم أن الشرّ والموت لم تعد لهما الكلمة الأخيرة، أن الآلام التي أعانيها في هذا الزمان هي وسيلة قداسة، فأنا أؤمن بمعلّم تألّم، تشوّه، أهين، عومل مثل مجرم ومات بين لصيّن، معلّم قاسى قمّة قلّة العدالة وهو البريء المطلق، تُرك وحيداً معلّقاً على خشبة ووُهب قبر يوضع فيه لأنّهم لم يكن يملك موضع يتكئ عليه الرّأس في حياته.  لقد عانى المعلّم قلّة العدالة الإجتماعيّة، ورأى أمّه تتألّم تحت الصليب، وانتصر وأقامه الآب في اليوم الثالث. هذه هي القيامة التي يدعونا السيّد لأن نحياها في حياتنا الخاصّة عالمين ان كلّ آلام هذا الدهر لا قيمة لها بالقياس مع المجد المزمع أن يتجلّى فيها حين نتّحد بقيامة يسوع.  هي ليست دعوة الى الإنتظار، إنتظار العالم الآخر، بل هي قيامة نبدأ بعيشها في هذا العالم، في واقعنا، نحوّل من خلالها العالم من واحة عنف وألم وصليب الى مكان قيامة وسلام، حبّ ومغفرة.

 

-          القيامة هي دعوة الى التتلمذ بمنطق جديد، فالملاك أبلغ النساء أن الرّب يسير أمام التلاميذ الى الجليل.  التلميذ هو الكائن الّذي يسير خلف المعلّم، يقتفي آثاره ويعتنق مبادئه ويبشّر بتعليمه.  الرسل ساروا خلف الرّب حين دعاهم لإتّباعه عند ذلك الشاطئ على بحر الجليل، والآن يدعوهم من جديد الى ذلك الشاطيء، يقول لهم أنّه لا يزال المعلّم، وأنّه يسير في المقدّمة، فهو يسبقهم الى الجليل، الى مكان الّلقاء الأوّل، حين أجاب التلاميذ على دعوة الرّب وتبعوه.  المسيح القائم هو هو المسيح الّذي دعاهم، وانطلاقه الى الجليل هي رسالة واضحة لهم أن مهمّتهم لم تنته بعد، لقد ابتدأت: يدعوهم الى السيّر خلف على طريق الألم والقيامة، للوصول الى قمّة حالة التتلمذ بواسطة الإيمان والحبّ والثقة.

 

-          لقد أعلن الرّب من خلال قيامته أنّه ليس كسائر المعلّمين، بل هو معلّم صادق للكلمة التي قطعها، لقد جاء يعطي التلاميذ معنى جديد لوجودهم، وهذا المعنى لا يمكن أن يتمّ خارجاً عن منطق القيامة والإنتصار على الشرّ والألم.

 

-          لقد أعلن لهم أنّه الله وابن الله، لم يعد بإمكانهم الظّن أنّه مجرّد مخلّص زمني، أو قائد عسكريّ أو صاحب تيار سياسيّ، هو الله الخالق وابن الله الآب.  لقد طلب منه الصالبون آية ليصدقوا: سألوه ان ينزل عن الصليب فأعطاهم آيه أعظم، أية الخروج من القبر. نزوله عن الصليب كان إعلان لفشله، لكان بدى ساحراً يهرب من الألم ومن التضحيّة، أما خروجه من القبر فأظهر انّه الله الواهب الحياة، قام وأقام معه المقبورين كلّهم، وأعطوا للأحياء رجاء جديداً بأن بعد أبواب القبر استمرار وقيامة.

 

-          لقد أعلن المسيح من خلال قيامته أنّه السيّد القادر أن يخلّصنا، لا من ظلم الرومانيّين والمحتلّين، إنّما من أقسى عبوديّة نعانيها، عبودية الخطيئة والموت.  بقيامته لم يخلّص المسيح ذاته، فهو لا يحتاج الى خلاص، بل خلّصنا كلّنا، وأعطانا غلبه على الخطيئة والموت، بقيامته أقامنا من حالة يأسنا الوجوديّ وفتح لنا أبواب الرّجاء.

 

-          لقد ألقى الرّب على عاتقنا، كتلاميذ له، ان نحافظ على مصداقيّة قيامته، فعالم اليوم لا يمكن أن يؤمن بإله قائم يحيا تلاميذه حالة خطيئة ولا يميّزهم شيء عمّن لم يتعرّفوا على المسيح.  قيامة يسوع هي علامة وُضعت على جبيني وكنزاً أوكله الرّب اليّ لأحافظ عليه، فكيف أحافظ على قيامة الرّب في حيانتي وفي حياة الآخرين؟

 

-          القيامة هي دعوة لنا لنعلن الرّب القائم لإخوتنا البشر.  أمام جديد هذ الحدث هربت النسوة صامتات، لم يخبرن احداً بما حدث.  لأ إمكانيّة لتعايش بين الخوف والإيمان، إن كنت اؤمن أن المسيح قد قام، وأنّه يشركني في قيامته، فما من أمر يخيفني، لا الموت ولا الألم ولا الإضطهاد ولا الظلم الإجتماعي ولا الفقر ولا الأمراض، فهي كلّها شرور نسبيّة تعبر ويبقى الإنسان القائم من بين الأموات، متّحداً بيسوع القائم.  لا يمكنني ان أومن وأصمت، فالإيمان ينتج الإعلان، ليملك منطق القيامة المسكونة كلّها ويعلم الجميع أن المسيح قد قام حقّاً:

 

قام المسيح فعلاً، ويقوم من جديد حين أتخطّى لحظات فشلي ويأسي.  يقوم اليوم حين أعرف كيف أحوّل صلبان حياتي من آلة عذاب ويأس الى وسيلة خلاص، يقوم المسيح في حياتي حينت تنتصر فيّ روح المغفرة، فالمعلّم فوق الصليب خاف على صالبيه وطلب لهم الرحمة، علم أن قلبهم قد عمي بسبب حقدهم وجهلهم، عذّبوه فأحبّهم وقتلوه فغفر لهم.  منطق القيامة هو منطق المغفرة، منطق الحوار، منطق عدم رفض المختلف، منطق القيامة هو أن أعلم أنّ الربّ قد دعاني لأبشّر الجميع، لا سيّما من هم سبب تعاستي، بأن يسوع هو ملك، عرشه صليب، وقدرته الرّحمة وبرنامج ملكه خلاص الجميع ليقوموا معه ويشاركوه الملكوت.

 

هو ملك المجد، القائم منتصراً، له تسجد كلّ ركبة، وتمجّد كلّ شفة ويعلن كلّ لسان أن يسوع هو الرّب، الرّب الذي قام وغلب الموت وأعطانا الخلاص.

 

للرّب القائم المجد والإكرام الى دهر الدهور.

 

المسيح قام حقاّ قام.