عظات
١١‏/٧‏/٢٠١٧ زمن العنصرة | الأب بيار نجم ر.م.م

الأحد السادس عشر من زمن عنصرة

"قلّ لي كيف تصلّي أقول لك كيف، أنت"، بهذه الكلمات يمكننا أن نلخّص هذا النّص الإنجيلي الّذي يورده لوقا. من نوعيّة صلاتي يمكنني أن أحكم على نوعيّة حياتي الرّوحيّة وعمقها. الأعمال الحسنة لا يمكنها أن تكون مقياساً لعمق الحياة الرّوحيّة، فغير المؤمنين يقومون بأعمال حسنة صالحة، والإيمان العقليّ وحده، أي معرفة أن الله موجود وهو يحبّني، لا يكفي لأن تكون لي حياة روحيّة أدخل من خلالها بعلاقة بنّوة مع الله، فكما يقول القدّيس يعقوب في رسالته: "الشياطين تؤمن أيضاً وترتعد"، فالإيمان إن كان مبنيّاً على المعرفة العقليّة لا يؤسّس بالضرورة لحياة روحيّة ولا يعطي الخلاص، فكلّنا يعلم أن الله موجود، ونعلم إرادة الرّب، ونعرف إن يجدر بنا أن نحيا حياة أخلاقيّة، وبالرغم من هذا نحيا أحياناً حياة لا تختلف عن حياة الّذين لا يؤمنون بالله: لا نصلّي، لا نعير للقدّاس أيّ أهميّة، لا نترك لله مكاناً في حياتنا، لا نقوم بعمل الخير بقدر استطاعتنا، نحيا الحقد أو الغضب ونرغب بالإنتقام... فماذا يميّزنا عن غير المؤمنين؟ لا بل أحياناً يحيا غيرُ المؤمنين حياة أكثر أخلاقيّة من حياتنا! لذلك نقول أن معرفة أن الله موجود لا تكفي وحدها لخلاصنا.

(لوقا 18: 9 - 14)

قالَ يَسُوعُ هذَا المَثَلَ لأُنَاسٍ يَثِقُونَ في أَنْفُسِهِم أَنَّهُم أَبْرَار، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرين: "رَجُلانِ صَعِدَا إِلى الهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، أَحَدُهُما فَرِّيسيٌّ وَالآخَرُ عَشَّار. فَوَقَفَ الفَرِّيسِيُّ يُصَلِّي في نَفْسِهِ وَيَقُول: أَللّهُمَّ، أَشْكُرُكَ لأَنِّي لَسْتُ كَبَاقِي النَّاسِ الطَّمَّاعِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاة، وَلا كَهذَا العَشَّار. إِنِّي أَصُومُ مَرَّتَينِ في الأُسْبُوع، وَأُؤَدِّي العُشْرَ عَنْ كُلِّ مَا أَقْتَنِي. أَمَّا العَشَّارُ فَوَقَفَ بَعِيدًا وَهُوَ لا يُرِيدُ حَتَّى أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ إِلى السَّمَاء، بَلْ كانَ يَقْرَعُ صَدْرَهُ قَائِلاً: أَللّهُمَّ، إِصْفَحْ عَنِّي أَنَا الخَاطِئ! أَقُولُ لَكُم إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا، أَمَّا ذاكَ فَلا! لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يُوَاضَع، وَمَنْ يُواضِعُ نَفْسَهُ يُرْفَع". 

الفرّيسيّ يمثّل كمال الحياة العمليّة اليهوديّة: يطبّق الشريعة حرفيّاً، يؤمن بكلام الله من خلال إيمانه بموسى وبالأنبياء، يصوم مرّتين في الأسبوع، يدفع العشور، يتطهّر قبل الصلاة والأكل، لا يأكل ممّا نهى الله اليهود عن أكله، ويصلّي خمس مرّات كلّ يوم... ولكن أي نوع من الصلاة هي هذه؟

أمّا العشّار فهو الرجل المحتَقَر في جماعة شعب إسرائيل: هو الّذي يحيا الخطيئة بشكل علنيّ ومتواصل، الخطيئة التي تطال كلّ الجماعة، لا سيّما الفقراء والمعوزين، خطيئة نقص العدالة. فالعشّار هو الموظّف الغنيّ المسؤول عن إدارة أموال الشعب، يتصرّف بها بطريقة منحازة وغير عادلة، يتملّق الأغنياء ويقسو على الفقراء. يتعامل مع المحتلّ الرومانيّ ليجد في أعينهم حظوة على حساب أبناء شعبه، لا يهتمّ بالفقراء، يغمض عينه أمام احتياج الأرملة وصراخ اليتيم، يمرّ قرب المتسوّل ولا يراه. جاء يصلّي، وحضوره الخاطئ ينجّس برارة الفرّيسيّ. جاء حاملاً خطيئته، يخجل من الله ويخاف تنجيس الآخرين، لذلك بقي واقفاً في الخلف، لم يتقدّم نحو الصفوف الأماميّة رغم أن وضعه الإجتماعيّ يسمح له بالوصول حيثما شاء، فما من أحد سوف يجازف بإغضاب العشّار. مشكلته لم تكن مع الآخرين، بل مع نفسه ومع الله، يحمل في داخله خطيئته، ضميره صار الدّيان الموبّخ. لم يكن يجرؤ على رفع عينيه نحو السماء، كان يعلم أن خطيئته تشكّل حاجزاً يمنعه من الوصول إلى "السماء"، أي إلى ما يتخطّى واقعه الأرضي والمادّة التي صارت تكبّله. بالرغم من كلّ هذا، جاء إلى الهيكل "يقرع صدره"، جاء تائباً، مستغفراً، يعلم أن الغنى الحقيقيّ هو في البقاء في صداقة الله، وأن كلّ الأموال التي يملكها والتي يديرها لا يمكنها أن تعطيه راحة الضمير. لم يكن يدين الآخرين كما فعل الفرّيسيّ، جلّ ما فعله هو أنّه اعترف بخطيئته، أعلن نفسه محتاجاً لرحمة الله. لقد أتّضع أمام عظمة الله ووضع ذاته في تصرّفه.

أمّا الفريّسيّ فقد جاء يعدّد صفاته الحسنة أمام الله، وقف أمام الخالق يحتقر "سائر الناس الطامعينَ الظالِمينَ الزُّناةِ، و هذا الجابـي"، يضع ذاته في مرتبة أعلى منهم، يحتقرهم ويدينهم. بصلاته هذه أخذ الفرّيسيّ دور الله، ووضع نفسه مكانه، وصارت دينونته البشريّة أقصى من دينونة الإله. لقد جاء يعلن لله أنّه كامل، ولا يحتاج إلى الخلاص، فقد أدرك الخلاص بقوّته الشخصيّة وهو ليس بحاجة إلى الإله.

لقد حوّل الفرّيسيّ صلاته إلى وسيلة إحتقار لإخوته البشر، نفى عنهم الكرامة الإنسانيّة وتناسى أنّهم أبناء لله وبنات، وحصر وجودهم كلّه بخطيئتهم. أمّا العشّار فكانت صلاته اعترافاً بمعصيته، إتّضع أمام الخالق، وفي الوقت عينه حافظ على كرامته البشريّة وعلى حقيقته كابن لله، أيقن أن من حقّه أن يقف أمام الله ويتكلّم في حضرته، لم ييأس من واقع الخطيئة التي يعيشها، بل كانت له ثقة أن يعود إلى الله كابن يتوب.

 

الصلاة هي مقياس الحياة الرّوحيّة، وطريقة صلاتنا تُظهرُ لنا عمق إيماننا، فالصلاة هي التعبير عن علاقة حبّ نحياها مع الله الحاضر في حياتنا. ولكن نوعيّة صلاتنا ترتبط بالصورة التي يرسمها كلّ واحد منّا عن الله.

منّا من يرى في الله ديّاناً غاضباً دوماً، ينتظرنا ليعاقبنا، نخاف منه ونرتعد من فكرة الإلتقاء به. تتحوّل صلاتنا عندها إلى صلاة عبد نحو سيّد قاسٍ، نستعطفه بخوف، ويمنعنا خوفنا من بناء علاقة ثقة معه.

ومنّا من يرى في الله محاسباً، يعدّ ساعات صلاتنا، ويحصي عدد دخولنا الكنيسة، فتصبح صلاتنا كعدّاد الوقود، نبني حياتنا الرّوحيّة على عقدة ذنب دائمة ونصاب بالذعر والخوف إن لم نتل عدداً معيّناً من الصلوات، ونخاف من الموت أو من العقاب إن لم نكتب صلاة أعطانا إيّاها أحد ما ذو وسواس لننسخها لعدد معيّن من المرّات. هي صلاة الخائف لا صلاة الإبن الّذي يعبّر عن بنوّته لله من خلال صلاته.

ومنّا من يرى الله كتاجر، يستطيع أن يعطينا الصحّة والسعادة والمال والبركة، شرط أن نعطيه في المقابل صلاتنا وأن نذهب إلى الكنيسة، فتصير صلاتنا تجارة، نعطي لنأخذ، وإن لم نأخذ ما طلبناه تتوقّف الصلاة، ونقطع علاقتنا بالله "التاجر الأعظم". صلاتنا هذه هي إهانة لله، نحبّه لأنّنا نحتاجه ونصلّي له عندما نكون بحاجة اليه، فلا تعود صلاتنا حديث حبّ وصداقة، بل علاقة ربح  وخسارة، مجرّد تجارة في سوق الحياة الرّوحيّة المزيّفة.

 

الصلاة الحقيقيّة نجد مثالها هنا في صلاة العشّار الخاطئ، لأنّ الرّب يضع مزاياها في مثله الصغير هذا:

الصلاة هي قدوم نحو الله، نحمل أمامه كياننا، ماضينا وحاضرنا ونكل اليه مستقبلنا. هي أن نختار الله كوجهة سير لنا حين نحتاج إلى ملجأ ومعين.

الصلاة هي ثقة بالله وبقدرته في تبديل واقعنا المتألّم والخاطئ. العشّار كان يعلم حقيقته وواقعه، وكانت صلاته علامة ثقة بالله القادر على عمل المعجزات في حياته، وبقدرته على التغيير الحقيقيّ.

الصلاة هي تفضيل لله على كلّ الخيرات الأرضيّة. كان العشّار قادراً على أن يجد في أمواله وفي مركزه ما يعطيه سلام القلب، ولكنه علم أن السلام الّذي يعطيه إيّاه العالم والمادّة هو سلام عابر، لا يملأ القلب بالسلام الدائم الّذي لا يزول. لذلك فتّش عن ينبوع السعادة الحقّة، وعلم أن وحده الله يقدر أن يعطي قلبه ما يفتّش عنه.

الصلاة هي فعل تواضع أمام الله، وإتّضاع المخلوق أمام خالقه. الصلاة هي فعل عودة إلى المصدر، هي الكائن الخارج من العدم يذكر نعمة الله التي أخرجته من عدمه وأعطته الوجود، هي عودة الكائن الترابيّ إلى الخالق الّذي نفخ فيه نسمة من روحه، فجعل وجود الإنسان يتخطّى البعد المادّي والوجود الأرضيّ. بصلاته، يعبّر الإنسان عن حقيقة بعد وجوده الرّوحيّ.

الصلاة هي أيضاً توبة إلى الله واعتراف بحاجة الإنسان إلى الرحمة الإلهيّة، على مثال العشّار الّذي صرخ: "ا‏رحَمْني يا اللهُ، أنا الخاطئُ"

الصلاة، وإن كانت فعل تواضع، فهي إظهار لقيمة الإنسان المطلقة، ففي الصلاة تظهر قيمة الإنسان كمخلوق قادر أن يدخل بعلاقة مع الخالق، بعكس كلّ المخلوقات الأخرى، وبهذه العلاقة تتجلّى حقيقة الإنسان كابن لله، مدعوّ إلى مشاركته الحياة الألهية.

الصلاة هي إيضاً فعل صراحة مع الله ومع الذّات، والرّب امتدح العشّار لصدقه وصراحته. لم يعدّد خطاياه كما عدّد الفرّيسيّ مزاياه، بل اعترف بحالة خطيئة شاملة، والسبب الأوّل لهذه الحقيقة هي ابتعاده عن الله وعن تعاليمه. صلاتنا إيضاً لا بدّ أن تكون صادقة، لا بدّ إن تقوم على فحص ضمير عميق، وعلى اعتراف بكيان خاطئ، تجذبه الخطيئة ويفضّل سهولة الخطيئة على تعب القداسة.

 

وإن طبّقنا هذا الإنجيل على حياتنا، نكتشف كم نحن وقحون أحياناً، نسعى مثل الفرّيسيّ إلى الأماكن الأولى، أي إلى إظهار أنفسنا أبراراً كاملين، ندين الآخرين ولا ننظر إلى نواقصنا، نعلن قداستنا وننسى أنّ الله يرى ما في أعمق أعماقي، يرى نواقصني ويحبّني، ينتظرني ليسامحني. رغم ذلك أشير بإصبع الإتّهام والتهكّم والدينونة نحو خطيئة إخوتي، أقتل صيتهم وأدمغهم إلى الأبد بسمة الخاطئ والخاطئة.

تبقى مريم العذراء معلّمتنا في معنى الصلاة الحقيقيّة: لقد استسلمت بين يدي الخالق، أعلنت نفسها "أمة الرّب"، أي خادمة كلمته الساعية إلى إتمام إرادته، أدركت أن كلّ ما تملكه هو عطيّة من الله، وأنّها غير قادرة على شئ دون نعمته. لقد علمت كيف تحوّل حياتها بأسرها إلى صلاة حقيقيّة: سمعت كلام الله، أصغت اليه، قبلت الكلمة في قلبها، تأمّلت بها، تجسّدت الكلمة في قلبها وفي كيانها فحملتها وأعطتها للعالم. هذه هي صلاتنا، إصغاء إلى الرّب الحاضر في حياتنا، قبولنا لإرادته في حياتنا، التأمّل بها كلّ يوم، تجسيدها في أعمالنا وفي حياتنا، والشهادة بها أمام مجتمعنا. الصلاة تعبّر عن كوننا أبناء الله، نرتبط به بعلاقة حبّ وصداقة وثقة، وليس بعلاقة خوف أو حسابات وتجارة، فنحن أبناء لله لا تجاراً في أسواق الصلاة، فهل نعطي صديقنا القليل من وقتنا للكلام معه، لشكره وحمده على وجوده في حياتنا، لنحيا حقيقتنا كأبناء له وكأصدقاء؟