عظات
٩‏/٨‏/٢٠١٧ زمن الصليب | الأب بيار نجم ر.م.م

الأحد الأول من زمن الصليب

لقد بدأ المسيح يعلن الملكوت، ولكن تلاميذه لم يفهموا جوهر الملكوت المعُلَن. جاء يعلن ملكوتاً جديدًا بمنطق جديد، وبقيت عيون التلاميذ مغلقة، فهي لن تنفتح على سرّ هذا الملكوت قبل أن يعاينوا المسيح مصلوباً، فعلي الصليب يظهر معني السلطة الحقيقيّة، سلطة لا تقوم على منطق العنف والتسلّط، ولا على الإستقواء ودوس حقوق الضعفاء. المملكة التي جاء يسوع يعلنها بموته من أجل الآخرين.

(مرقس 10: 35 - 45)

دَنَا مِنْ يَسُوعَ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، ابْنَا زَبَدَى ، وقَالا لَهُ: "يَا مُعَلِّم، نُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ لَنَا كُلَّ ما نَسْأَلُكَ". فقَالَ لَهُمَا: "مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَصْنَعَ لَكُمَا؟". قالا لَهُ: "أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ في مَجْدِكَ، واحِدٌ عَن يَمِينِكَ، ووَاحِدٌ عَنْ يَسَارِكَ". فقَالَ لَهُمَا يَسُوع: "إِنَّكُمَا لا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَان: هَلْ تَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الكَأْسَ الَّتي أَشْرَبُها أَنَا؟  أَو أَنْ تَتَعَمَّدَا بِالمَعْمُودِيَّةِ الَّتي أَتَعَمَّدُ بِهَا أَنَا؟". قالا لَهُ: "نَسْتَطِيع". فَقَالَ لَهُمَا يَسُوع: "أَلْكَأْسُ الَّتي أَنَا أَشْرَبُها سَتَشْرَبَانِها، والمَعْمُودِيَّةُ الَّتي أَنَا أَتَعَمَّدُ بِهَا ستَتَعَمَّدَانِ بِهَا. أَمَّا الجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي أَوْ عَنْ يَسَارِي، فلَيْسَ لِي أَنْ أَمْنَحَهُ إِلاَّ لِلَّذينَ أُعِدَّ لَهُم". ولَمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ الآخَرُون، بَدَأُوا يَغْتَاظُونَ مِنْ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فدَعَاهُم يَسُوعُ إِلَيْهِ وقَالَ لَهُم: "تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذينَ يُعْتَبَرُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُم، وَعُظَمَاءَ هُم يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِم. أَمَّا أَنْتُم فلَيْسَ الأَمْرُ بَيْنَكُم هكَذا، بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُم عَظِيمًا، فلْيَكُنْ لَكُم خَادِمًا. ومَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الأَوَّلَ بيْنَكُم، فَلْيَكُنْ عَبْدًا لِلْجَمِيع؛ لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَم، بَلْ لِيَخْدُم، ويَبْذُلَ نَفْسَهُ فِداءً عَنْ كَثِيرين". وقالَ لَهُم يَسُوع: "أَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّ بَعْضًا مِنَ القَائِمِينَ هُنا لَنْ يَذُوقُوا المَوْت، حَتَّى يَرَوا مَلَكُوتَ اللهِ وقَدْ أَتَى بِقُوَّة".

لقد كان اليهود ينتظرون تحقيق مُلك داود على إسرائيل، وكان التلاميذ يتوقّعون أن يكون يسوع هو الملك الآتي. لم يفهم التلاميذ أن الملكوت الّذي لا بدّ أن يتحقّق هو ملكوت مبنّي على الخدمة، على التعاضد، على الرحمة، على العدالة والمحبّة. ملك الله على الأرض هو بداية عيش للملكوت السماويّ.

في النّص الّذي يسبق نصّنا هذا، نجد الرّب يعلن لتلاميذه عن الآلام التي سوف يقاسيها الرّب في أورشليم (مر ١٠، ٣٢- ٣٥)، وقد تعمّد الإنجيليّ أن يضع النّص هذا قبل طلب يعقوب ويوحنّا بامتيازاتهما، ليُظهر لنا الإختلاف بين منطق الله ومنطق البشر في ما يتعلّق بالسلطة: منطق الله هو أن السلطة هي خدمة وبذل الذّات حتّى الموت في سبيل الآخرين، أمّا منطق الإنسان فهو سعي الى الإمتيازات والى الكراسي.

"يا ربّ نريدك أن تلبّي طلبنا"

تبدو هذه الكلمات للوهلة الأولى كلمات طلبة وصلاة، نقولها كلّ يوم نحن أيضاً، نتمنّى أن يستجيب الله طلباتنا، ونسأله أن يهبنا ما نسأله. طلب التلميذين، مثل صلاتنا أحياناً، لن تستجاب لأنّها أنانيّة، ولا مكان للأنانيّة في الصلاة.  الصلاة الحقّة هي أن يتواضع الإنسان أمام خالقه، ويعترف أنّه لا شيء دون الله، فيضع ذاته في تصرّف إرادته.

الصلاة الحقيقيّة من ميزاتها الثقة، أثق أن الله يحبّني، ويريد ما هو خير لي، حتّى ولو بدت النتائج للبرهة الأولى مخالفة لرغبتي ولإرادتي، فبالثقة أُعلن أن الله يحبّني، وهو أبي السماوّي الّذي يرعاني. الصلاة الحقّة هي أن أضع ذاتي رهن إرادة الله وأتّكل عليه. طلب التلميذان الموقع الأفضل، أرادا أن يأخذا مكان الرّب، فيقّررا مستقبلهما ودورهما ودعوة الله لهما، أمّا الله فقد خطّط لهما ما هو خير لهما وللآخرين. هل نثق بالله فعلاً؟ هل أن صلاتنا هي فعل اتّكال على الرّب أم أنّنا، بكبريائنا، نختار ما هو الأنسب لنا ونمليه على الله؟

"أعطنا أن نجلس، واحد عن يمينك وآخر عن يسارك، في مجدك:

يعقوب ويوحنّا هما بحسب تقليد الكنيسة، من أقارب يسوع، ولا بدّ أن طلبتهما هذه قد استندت على منطق أن للقريب الحقّ في النصيب الأفضل. فإن عدنا الى التاريخ اليهوديّ المعاصر للمسيح، نجد سلسلة طويلة من حروب ونزاعات بين الإخوة والأقارب طمعاً في المناصب والمراكز. والإنجيليّ هنا يوجّه رسالة مزدوجة: لليهود أوّلاً، الّذين كانوا يظنّون أن خلاصهم مضمون بسبب عامل الإنتماء للشعب اليهوديّ، يقول لهم أن الخلاص قد أُعطي لا لنسب وحسب، أو بسبب انتماء دينيّ أو إجتماعيّ أو إثنيّ، بل الخلاص يعطى ببذل الذات الكامل لله، من خلال الإيمان والعمل.

والرسالة الثانية توجّه للجماعة المسيحيّة التي بدأت تنقسم على ذاتها، إنقسام يبدو جليّاً من خلال ما يقوله مرقس: "وسمع العشرة هذا الكلام فغضبوا على يعقوب ويوحنّا" (١٠، ٤١). يبدو واضحاً أنّ الإنقسامات بين التلاميذ قد بدأت قبل موت يسوع وقيامته من بين الأموات، ورسالة مرقس هنا هي رسالة وحدة للتلاميذ، ولنا نحن المسيحيّين اليوم، في أن نجعل المقام الأوّل في أولويّاتنا لخدمة الإنجيل لا لمآربنا الشخصيّة ولطموحاتنا الخاصّة.

"تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونها، وأن عظماءَها يتسلّطون عليها. فلا يكن هذا فيكم"

 هنا يبرز إختلاف المنطق بين مفهوم السلطة عند المسيحيّين وعند الآخرين، فالسلطة اليهوديّة كانت تستغلّ الضعيف والمحتاج، لتقوّي سلطتها وحكمها. لا تسلّط في المسيحيّة، فالسلطة هي وسيلة خدمة، وهي قناعة على كلّ معمّد الإلتزام بها وتطبيقها، السلطة الدينيّة هي خدمة، والعمل السياسيّ لا يمكنه أن يكون مجرّد سعي الى مناصب وكراسي حكم. ،وصيّة المسيح لتلاميذه هي إن يتحوّلوا الى "خدّام" والى "عبيد": "من أراد أن يكون عظيماً فليكن خادماً، ومن أراد أن يكون الأوّل فيكم، فليكن لجميعكم عبداً". الخادم (diakonos) والعبد (doulos) ليسا مرادفين لمعنى واحد في العهد الجديد، فالعبد يرتبط دوماً بما هو زمنيّ وماديّ، أمّا الخادم فيرتبط دوماً بما هو أسراريّ وروحيّ. السلطة في المفهوم المسيحيّ هي إذاً عمل خدمة يطال الإنسان بكليّته: ببعده الماديّ الحياتيّ وببعده الروحيّ. دعوة المسيحيّ هي أن يخدم الإنسان بكافّة أبعاده، فالسلطة هي خدمة الفقير، وهي العمل على ألاّ يبقى أي إنسان رهينة لواقعه الإجتماعيّ، فكم من سياسات تعمل على إبقاء الشعوب في فقرها المدقع خوفاً على مراكزهم وعلى كراسيهم؟ كم من أطنان من الغذاء والدواء تتلف سنويّاً خوفاً من اختلال الأنظمة الإقتصاديّة؟ كم من الملايين تُنفق في سبيل التسلّح وفي الحروب المدمّرة، مبالغ لكانت وفّرت للعالم الثالث الغذاء والدواء والعلم والإستشفاء؟ لا يمكن لمن يؤمن بالمسيح أن لا يتحمّل مسؤوليّة العالم بأسره من خلال الإهتمام بالفقير ،بالمهمّش وبالمريض. لا يمكننا إن نسعى الى المراكز وننسى واجبات المراكز. لا يمكننا أن ننسى أن واجبنا الأوّل والأهمّ هو خدمة الإنسان وتنميته.

فابن الإنسان جاء لا ليُخدم بل ليخدم ويبذل ذاته في سبيل الكثيرين:

يضحي يسوع هنا مثالاً لكلّ مؤمن، وحياته تصبح قدوة لكلّ واحد منّا. هدفنا الخدمة وبذل الذات، مجّاناً ودون بحث عن مكافآت. هدفنا أن نصبح تلاميذ السيّد، لا بالتسلّط ولا بالقوّة ولا بالبحث عن المنافع الشخصيّة، بل ببذل الذات في سبيل الآخر. فحين يتحوّل الآخر من غريب الى أخ أدخل في منطق المسيح. حين يصبح كلّ شخص ألتقيه موضوع حبّ وخدمة لا وسيلة نفع ومصلحة، عندها أكون مسيحيّاً حقّ. فالأنانيّة والمعموديّة لا يتساكنان، منطق الفرديّة لا يبني جماعة ولا يجعلنا في كنيسة، أعضاء في جسد واحد، يعملون لتقديس المجتمع.