صلوات
٢٩‏/٤‏/٢٠١٧ صلوات مريميّة | الأب بيار نجم ر.م.م

تأمّلات كهنوتية في أسرار الحزن

السرّ الأول: صلاة الربّ في بستان الزيتون

ثُمَّ خرَجَ وذهَبَ كَعادَتِهِ إلى جبَلِ الزَّيتونِ يَتبَعُهُ تلاميذُهُ.  ولمَّا وصَلَ إلى المكانِ قالَ لهُم: "صَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعُوا في التَّجرِبَةِ"،  واَبتعَدَ عَنهُم مَسافةَ رَميةِ حجَرٍ وركَعَ وصَلَّى،  فقالَ: "يا أبي، إنْ شِئْتَ، فأَبْعِدْ عنِّي هذِهِ الكأسَ! ولكِنْ لِتكُنْ إرادتُكَ لا إرادتي"  وظهَرَ لَه مَلاكٌ مِنَ السَّماءِ يقوِّيهِ. ووقَعَ في ضِيقٍ، فأجهَدَ نَفسَهُ في الصَّلاةِ، وكانَ عَرَقُهُ مِثلَ قَطَراتِ دَمِ تتَساقَطُ على الأرض.  وقامَ عَنِ الصَّلاةِ ورجَعَ إلى التَّلاميذِ، فوجَدَهُم نِيامًا مِنَ الحُزنِ. فقالَ لهُم: "ما بالُكُم نائِمينَ؟ قوموا وصَلَّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَةِ.

هكذا قلت في جهلي: "أين كنتَ حين كنت أحتاج إليك؟ أين احتَجبتَ حين كنت أصلّي وأصلّي وأصلّي؟ أين أنت يا أيّها الغائب الدائم والصامت أبدًا؟ أين كنتَ حين تألّمتُ وخفتُ وحين كنت وحيدًا؟ أين أنت يا من أدعوك أبي كلّ يوم؟".

هكذا قلتُ في جهلي: "يخيفني صمتك أحياناً، ويسرّني أحياناً أخرى. إبقَ صامتاً حين أرتكب الخطايا، إبقَ صامتاً حين أسعى وراء ملذّات هذا العالم، إبقَ صامتاً حين أضعُك على هامش حياتي، إبق صامتاً حين استبدلُ وصاياك بوصايا أُخرى، وألوهتك بآلهة أخرى. أُصمت حين أترك وصيّة المحبّة والغفران وبذل الذات، وأسعى وراء المال والسلطة والشهوة. أصمت حين أبني ممالكي واسعى للخلاص بقوّتي. أُصمُتْ حين أمتهن كرامة أخي الإنسان، حين أهين جسده، وأدوس حريّته، وأحتقر اختلافه. أُصمُتْ حين أصُمُّ أذنيَّ عن صراخ الأرملة واليتيم وأمُرّ قرب طريح الأرض على قارعة طرق حياتي ولا أعيره انتباه. أبقَ عندها صامتاً أرجوك، فصوتُكَ مؤلمٌ في ضميري. 

هكذا قلت في جهلي: "تكلّم حين أحتاج اليك، في مرضي، في وحدتي، في حاجتي، في يأسي، في فقري وفي الضياع".

وحين نظرت ابنَك، وحيدَك، ذاك الّذي به ارتضيت تنازل عن عرش السماء يركع في زاوية بستان في أحقر زوايا الأرض، يصلّي مضطرباً من مصير ينتظره، وحيداً وقد خذله الجميع، آلاف من لحقوه ليروا عجائبه صرخوا: أصلبه، ارفعه عنّا. أين هو المخلّع؟ أين هو الأعمى؟ أين هي النازفة والأبرص والمعّذب بطغمة الشياطين؟ خفتت أصواتهم، نسوه ورحلوا... ما باله بطرس ينام غير مهتمّ بقطرات دم تخرج من جسد شهيد المحبّة؟ أين هو يوحنّا، أنسي بسرعة ضربات قلب الفادي سمعها البارحة حين أتكأ رأسه على صدر الحبيب؟ أين هم كلّهم؟ وحده يهوّذا كان يعلم ماذا يريد، وحده أطاع كلمة الرّب: "ما أنت فاعله، إفعله عاجلاً". وحدها مشيئتك كانت تعزيته، وإتمامها كان غايته، في عمق اضطرابه وعظيم خوفه عرف أنّك لا ترغب بشئ سوى خلاص البشريّة، وعلم أن هذه الآلام، هذا الخوف والإضطراب، قطرات الدم التي صبغت عرقه، هي بداية التكفير عن خطايا البشريّة.

عندها أدركت كم أنا جاهلٌ، وأدركت فداحة في قلته في جهلي. عندها ترائى أمامي كبريائي وأنانيّتي، عرفت كم أن الله هامشيّ في حياتي: أريده عندما أحتاجه، وأهرب منه حين أفتّش عن الخطيئة. نظرت إلى الرّب يصلّي في تلك الحديقة وندمت. عفوك ربّي، كم من مرّة دعوتك "أبي، أبي الّذي في السماء" دون أن أعرف ما تعنيه هذه الكلمة. عفوك ربّى ورحمتك، لطالما وضعت مشيئتك قبل مشيئتك، وفضّلت إرادتي على إرادتك. سامحني ربّي، سامحني أبي، سامحني يا بحر الحنان. وعلّمني: علّمنى أن أثق بك وبإرادتك، علّمني على حبّ كلمتك، وقوّني لأشهد لأرادتك في حياتي، وأتّمم مشيئتك في محيطي، فأشارك بألمي في خلاص أتّممه ابنك على الصليب.

أمّي مريم، يا امرأة تألّمت ولم تشكّ في حضور الله. يا امرأة كلّ ما أرادته هو تمميم إرادة الله في حياتها، فما خافت، ولا اضطربت ولم تتردد في قولها: "أنا خادمة ارادتك، ليكن في حياتي كما تقول". علّميني أن أؤمن كما آمنت، أن أثق كما وثقت، وأعطيني شجاعتك لأعلن إرادة الرّب المخلّصة في حياتي. آمين.

 

 

السرّ الثاني: جلد الرّب يسوع بالسياط

فقالَ لهُم بيلاطُسُ: "وماذا أفعَلُ بيَسوعَ الّذي يُقالُ لَه المَسيحُ؟" فأجابوا كُلُّهُم: "إصْلِبْهُ! ": قالَ لهُم: "وَأيَّ شَرٍّ فَعلَ؟" فاَرتفَعَ صياحُهُم: "إصْلِبْهُ! "  فلمَّا رأى بيلاطُسُ أنَّهُ ما اَستفادَ شيئًا، بلِ اَشتَدَّ الاَضطِرابُ، أخذَ ماءً وغسَلَ يَديهِ أمامَ الجُموعِ وقالَ: "أنا بَريءٌ مِنْ دَمِ هذا الرَّجُلِ! دَبِّروا أنتُم أمرَهُ" فأجابَ الشّعبُ كُلُّهُ: "دمُهُ علَينا وعلى أولادِنا! "  فأطلَقَ لهُم باراباسَ، أمَّا يَسوعُ فجلَدَهُ وأسلَمَهُ ليُصْلَبَ.

كلّ جلدة على جسد يسوع هي صرخة تقلق راحة ضميرنا اليوم. جلد المسيح ما هو حدث حصل في الماضى وانتهى. جلد المسيح يتكرّر كلّ يوم، نكرّره دون شفقة ولا رحمة. جلد المسيح هو جلد بريء اليوم. ألم الوحيد الفقير المتروك وحيداً، يغطّي أنينه ضجيجُ عالمنا هو تكرار لجلد المسيح البريء.

 صراخ الأرملة الوحيدة دون معين، تسعى لملء بطن أولادها الجياع دون جدوى، هي كصراخ السوط على جسم يسوع، ينهشه، يشوّهه، ينتزع اللّحم عن الجسد النقيّ ويسيل دماء الطهر والنقاء على أرضنا الشرهة لابتلاع دماء أبنائها.

آلاف الأطفال يُقتلون كلّ يوم في حروب عبثيّة، يقطفهم الموت كورود نضرة ضعيقة، هي جلد لمسيح أحبّ الأطفال، احتضنهم، أحبّ برائتهم ورأى فيهم صورة الملكوت. أطفال ينمون على قرع طبول الحرب، يلهون ببنادق ويجمعون عن الأرض طلقات فارغة زرعت الألم فحصدت الموت، يطال أجسادهم سوط الأنانيّة والوصوليّة، يُستعملون، يجنّدون، تُداس طفولتهم.

نبكي ونتألّم ونتأسّف حين نفكرّ في جلدات السياط القاسية، وننسى أنّنا شركاء في جلد المسيح: كم من مرّة جلدناه بخطيئتنا، كم من مرّة جلدناه بكبريائنا، كم من جلدة وجّهناها لجسمه بجلدنا باللسان إخوة لنا ضعفاء، خطأة. كم من مرّة سلّطنا عليهم سهام نميمتنا لنخفي نقائصنا، أخطاءنا وخطايانا.

جلدناه بخطيئتنا، وبحبّ الخطيئة وبالإصرار عليها. أعطينا لذاتنا حججاً ودوافع تخفيفيّة، ولمنا الرّب على تقصيره. أهَنّا محبّته لنا، دنّسنا هيكل روح قدسه، جسدنا. بعنا ذاتنا للعدوّ، رمينا هوّيتنا في مزاد الخطيئة العلنيّ، نحن، أبناء الملك، جعلنا أنفسنا عبيداً في أسواق الزنى والحقد والكبرياء والطمع والجشع. ألم نجلد نحن المسيح؟

لقد وثق بنا المسيح، فماذا فعلنا؟ أوكلَنا بناء الملكوت، فماذا حقّقنا؟ أعلن لنا بدمه إنجيل الحبّ، فلماذا امتلأت حياتنا حقداً؟ وهبنا رسالة الغفران، فلماذا نحقد ونبتغي الإنتقام؟ لقد أحبّنا يسوع حتى الموت، فأوشكنا أن نقتله مرّة ثانية، إذ طردناه من قلبنا، من عائلتنا، من عالمنا. ألم نجلد المسيح نحن أيضاً؟

يا مريم، يا من قاست جراح الألم، يا معلّمتنا في احتمال آلام الجلد كلّ يوم حبّاً بالمسيح، يا من تتلمذ يسوع الإنسان في مدرسة التضحية بين يديك، تلك الجلدات القاسية على جسده كانت تنطبع على قلبك واحدة واحدة: هذا هو معنى الحبّ: أن لا نهرب من التضحية، هذا هو معنى الفداء، أن ندفع بحبّ ثمن خطايا الآخرين. في مدرستك تعلّم يسوع الإنسان، وفي مدرستك علّمينا كيف يكون الجلد الّذي نقبله كلّ يوم قبلات حبّ تنطبع على جسد المسيح. آمين.

 

 

السرّ الثالث: تكليل رأس المخلّص بإكليل من الشوك:

فأخذَ جُنودُ الحاكِمِ يَسوعَ إلى قَصرِ الحاكِمِ وجَمعوا الكَتيبةَ كُلَّه، فنزَعوا عَنهُ ثيابَهُ وألبَسوهُ ثَوبًا قِرمِزيًّا،  وضَفَروا إكليلاً مِنْ شَوكٍ ووضَعوهُ على رأسِهِ، وجَعَلوا في يَمينِهِ قصَبَةً، ثُمَّ رَكَعوا أمامَهُ واَستَهزأوا بِه فقالوا: "السّلامُ علَيكَ يا مَلِكَ اليَهودِ!" وأمسكوا القصَبَةَ وأخَذوا يَضرِبونَهُ بِها على رأسِهِ وهُم يَبصُقونَ علَيهِ  وبَعدَما اَستَهزَأوا بِه نَــزَعوا عَنهُ الثَّوبَ القِرمِزيَّ، وألبَسوهُ ثيابَهُ وساقوهُ ليُصلَبَ.

كان في ذاك المساء ينظر اليهم يهزأون به، يعرّون جسده الطاهر وهو الّذي أخرج أجسادهم من التراب، يلبسوه ثوب ملوك الأرض وهو الّذي يملك الأرض والسماء، يضعوا الشوك على رأسه، هو الّذي منه يأتي كلّ تاج ومملكة، وضعوا القصبة في يمينه كما لو أنّه محتاج إلى صولجان، فصولجانه أبديّ أزليّ، صولجان مُلكه تحمله الملائكة وتخشى لمسه. سجدوا أمامه سجود العبادة الكاذبة الزائفة، هو الّذي تسجد أمامه ربوات الملائكة وأجواق ميخائيل في السماء. نظر أليهم يضربون رأسه بالقصبه، فألم الإكليل لم يكن يكفيهم، كان لا بدّ من غرس أشواكه عميقاً جدًا في رأسه، ضربوه بالقصبة ليغرزوا الأشواك أكثر، فجّروا حقدهم في برائته، وشرّهم في طيبته، وانتقامهم في مغفرته. نظر إليهم وأحبّهم، نظر إليهم كما كان ينظر إلى المريض يطلب الشفاء، إلى الأبرص يطلب الطهر، إلى الزانية تطلب المغفرة والقبول. لم ينظر إلى حقدهم الأعمى، بل نظر إلى عمق قلوبهم، فأبصر القلب يتآكله الحقد والرغبة بالإنتقام. نظر اليهم كما نظر إلى الأبرص ليشفي برص روحهم، نظر اليهم كما نظر إلى النازفة يرغب في شفاء نزف الرحمة منهم، نظر اليهم كما نظر إلى الخاطئة ليعيدهم إلى محبّة الله وصداقته. ولكن قلوبهم كانت مغلقة، ترفض غفران الله لها، ترغب في الإنتقام، عطشانة إلى دماء الأبرياء.

وبقي ينظر اليهم بالصمت نفسه، كما ينظر الينا، إلى كلّ واحد منّا. بحبّ ينظر الينا، لا يتوقّف على بشاعة أعمالنا وخطايانا، ينظر إلى قلبنا. هو وحده ينظر إلى قلوبنا، إلى عمق أعماقنا، يرى جراح ماضينا، نهينه فيحبّنا، نهزأ به فيظهر لنا أي مجد أعدّه لنا إن رجعنا، نرفضه فينتظرنا، نكلّله بشوك خطايانا كلّ يوم، فيعدنا بإكليل القداسة إن عدنا اليه، وأن عدنا إلى عمق قلوبنا.

كان ينظر اليهم، ومن خلالهم ينظر بصمته القاسي إلى خطيئة كلّ إنسان سوف يأتي بعدهم، يهينه، يحتقره، يرفضه، ويسجد له سجوداً كاذباً، سجوداً شيطانيّاً. نظر اليهم، وعبرهم نظر الينا، إلى جراح قلوبنا نخفيه تحت ستار من حقد قاس، ورغبة بالإنتقام. ينظر الينا ندخل أمامه، نسجد له وقلبنا متعلّق بإله آخر، نركع أمامه، وعقلنا مشدود إلى مكان آخر. كلّلوه وسجدوه أمامه هازئين، نكلّله ملكاً على حياتنا ونسجد أمامه كاذبين، لأنّ قلبنا متقسم، مجزأ إلى ألف جزء وجزء. نسجد أمامه وفكرنا في عملنا، في درسنا، في لذّتنا، في كذبنا، في حقدنا، في انتقامنا. نسجد أمامه دون أن نكون له بكلّيتنا. ألم يفعل الجنود هذا أيضاً؟

لكنّه ينظر إلى عمق قلبنا، وسوف يبقى ينظر وينتظر، لا يفقد الثقة بأن الخير فينا سوف ينتصر، وأن جراح قلبنا سوف يشفيها أن وضعنا بين يديه المقدّستين قلوبنا. يثق بنا، لأنّه يثق بحبّه لنا، ويثق بأن لا بدّ للخير أن ينتصر، لا بد لجدار الحقد أن تسقطه ذرّة المحبّة الموجودة فينا. ينظر الينا صامتاً وينتظر أن نعود لكيما يشفينا.

مريم، يا من كلّل قلبك إكليل من شوك الحزن لألم وحيدك، أعطينا نعمة أن يطهّر الألم قلوبنا ليصير على صورة قلب ابنك الأقدس، ناصعاً، بريئاً، مقّدساً. أطلبي لنا، يا أمّاً سماويّة حبيبة، أن نسعى إلى ما هو جوهريّ، فنكّف عن السعي إلى سلطة فانية، ونتذكّر دوماً أن ربّنا قد تكلّل بالشوك من أجلنا، وحبّاً بنا. علّمينا السعي إلى ما هو جوهريّ، علّمينا التفتيش عمّا هو أبدي. آمين.

 

 

السرّ الرابع: يسوع ربّنا يحمل الصليب.

فخرَجَ وهوَ يَحمِلُ صَليبَهُ إلى مكانٍ يُسَمَّى الجُمجُمَةَ، وبالعبرِيَّةِ جُلْجُثَةَ

تبعت خطاك في ذاك المساء المملوء خلاصاً، تبعتك بعيني روحي الكئيبة، تبعتك على دروب أورشليم، دروب الجلجلة، على درب تقود إلى قتل البريء، لا بل إلى قتل البرارة المتجسّدة.

عذراً ربيّ، لم أجرؤ على الإقتراب أكثر، فأنا لست أشجع من بطرس، أنا لست يوحنّا، لست مريم، عفوك ربّي، أنا جبان، جبان، جبان.

تبعتك من بعيد، رأيت الحمل الوديع يحمل السكين الّذي سوف يذبحه، أبصرت الذبيجة الّتي تحمل المذبح الّذي سوف تُقدّم عليه محرقة لله كاملة، أبْصَرتُ من حَكَمَ عليه ضلالُ الكون بالموت، لأنّ ظلام العالم لا يحتمل نوره، وحقد العالم لم يطق برائته، وحقد العالم خاف من محبّته. نظرت اليك تحمل صليب آدم، صليب قايين، صليب يهوّذا، صليب الخاطئة، صليب الإنسان القاتل، صليبي أنا. نعم ربّي، تبعتك أراك حاملاً صليباً كان معدّاً لي أنا، ولإخوتي الأشرار. رأيتك تأخذه عنّي، تعانقه، تحتضنه، تحبّه، لا، بل رأيتك تأخذني، تعانقني، تحبّني، تبذل ذاتك من أجلي. وحدك تحبّني بهذا القدر إلهي، فالكلّ ينظرإلى خطيئتي، إلى نواقصي، إلى أخطاء شبابي وكهولتي، كلّهم ينظرون إلى ظلام ماضيّ، وإلى فداحة خطيئتي، ويدينونني. وحدك نظرت إلى برائتي الأولى، وحدك نظرت إلى ضعفي، وحدك سامحت أخطائي وعفوت عن خطاياي. كلّهم ينظرون إلى ماضيّ، وحدك تنظر إلى مستقبلي، تريد تبديل قلبي، تريد تجديد ضميري، تريدني أن أعود إلى جمال برارتي.

لهذا أخذتَ صليبي وحملتًه، أحببتًني كما لم تحبّني أميّ، وقلبها يحتوي على حبّ الكون بأسره. أحببتني، دعوتني، غفرت لي. ولأنّي كائن شكّاك، متقّلب، متخبّط بأهواء شتّى وبأمواج الخوف واللّذة والخطيئة والحذر، خفت أن اقترب منك، قلت في نفسي، علّه مثل كلّ الآخرين، ربّما إن اقتربتُ منه الآن يدينني، إن ذهبت اليه يشيرُ إلى مساوئي، إن سمعت ندائه فسوف يستعبدني. سامحني ربّي، هي شكوك ولَّدَتَها فيّ نظرة الآخرين، وشكّهم، وحقدهم، وانتقامهم، خطيئتهم وضعفهم.

ولأنّي خفتُ أن تكونَ مثلهم، بقيتُ بعيداً. عندها نظرْتَ اليّ، نظرت إلى قلبي، وقلتَ لي: "أعطني صليبك أحمله، إن كنتَ خائفاً من معانقتي، فدعني أعانق صليبك، إن كنت ترفض قبلتي، فدعني أجعل الصليب قبلة على وجه هذا العالم، وعلى قلبك"، "خذه صليبي"، قلتُ لكَ، "خذه فقد تعبتُ منه، وثقله يدمي كتفيّ". كم كنت جاهلاً ربّي، فارحمني.

ذاك المساء، مساء الألم والخلاص، أبصرتك، تمرّ في شوارع أورشليم معانقاً صليبي.  ذاك المساء أدركت كم هي كبيرة خطيئتي، ذاك المساء عرفت أنيّ جعلت الإله يتألّم. نظرت اليك تسقط تحت الصليب بسبب فداحة ما ارتكبتُ في جهلي وفي معرفتي. نظرت اليك تسقط بسبب ما ارتَكبْتُ انا من شرّ، من خطايا، من معاصيّ.

كم أردت أن أكون مكان سمعان الآتي من قيروان البعيدة، كم أردت أن أكون أنا من يساعدك على حمل الصليب، كم أردت أن أعينك على الوقوف ثانية، كم أردت يومها، في أزقّة أورشليم الكئيبة، أن أقول لك: "إرحمني يا إلهي، سامحني يا حبيبي، أغفر لي إيها الصديق الوحيد الحقّ، فكلّ هذا بسببي". لكني جبان، أخاف أن أعترف، فماذا سوف يقول الأخرون عنّي؟

المجد لك يا ملكاً حمل عرشه على كتفيه، المجد لك أيها الملك الّذي صار صليبه أداة ملكه. السلام لك يا ملكاً أحبّ رعيّته حتى الموت حبّا بها. شكراً يا ربّ لأنّك أحببتني، شكراً لانّك خلّصتني، عفوك إن كنت جباناً، عفوك إن ما زلت جباناً، ولكنّك تعلم أنّي أحبّك، فأنت تعلم ما في أعماق نفسي، وحدك يا ربّ تعلم.

يا أمّ يسوع وأميّ، أبصرتُك يومها بين نساء أورشليم تبكين، وتؤمنين. نظر اليك الرّب وقال لك: "لا تبكي عليّ بل ابكِ على ابنائك"، نعم أميّ مريم، بكيت يومها على أبنائك ولا زلت تبكين على كلّ واحد منّا. دموعك تسقط كلّ يوم، لأنّك في كلّ يومٍ ترين أبنائك يسقطون تحت صلبان ألمهم، وحقدهم، وحروبهم. تبكين، وتصلّين، تعلمين، وأنت الإمرأة المؤمنة، أن ذبيحة ابنك في ذاك المساء كانت لتداوي جراحنا وتؤاسي آلامنا. إشفعي بنا يا أمّاً رافقت ابنها على طريق الجلجلة، وساعدينا لنحمل برجاء صلبان حياتنا، ونصبح على مثال ابنك، عمّالاً في سبيل خلاص إخوتنا في الكون كلّه. آمين.

 

السّر الخامس: يسوع يموت على الصليب

وحَنى رأسَهُ وأسلَمَ الرُّوحَ.

تبارك ذاك المساء الّذي بدّل حقيقة وجودنا التافه، تباركت تلك الساعة السادسة التي قلبت مقاييس حياتنا وأنظمتها الكئيبة، تبارك ذاك المصلوب على خشبة، متألّماً، مشوّهاً، نازفاً وجريح القلب بحربة خطيئتنا.

فوق تلك الجلجلة انفتحت أعيننا، وعرفنا كم هو ثمين ذاك الآدم الخاطيء الشريد المطرود، لقد نال الفداء بدم الحمل الأزلّي المذبوح. كلمة الله التي خرجت من فم الله وحضنه منذ الأزل، كلمة الله الخالقة والمحيّية، هي اليوم الكلمة المذبوحة المتألّمة الفاديّة. لقد أخذ الله صورتنا ليجدّد صورته فينا. صورة المسيح المشوّه، المثخن جراحاً، المتألّم والمعذّب هي صورة إنساننا نحن، إنساننا الرازح تحت الخطيئة، أدمته أشواك المعصيّة، فقد جمال البنوّة الإلهيّة، وصار قلبه نازفاً، لاهثاّ وراء حبّ لا يحصل عليه، وراكضاً إثر خلاص لا يجده. لقد أخذ المسيح صورتنا هذه ليعطينا من جديد صورة أبناء الله، مات ليعطينا الحياة، فتح قلبه ليهبنا الحبّ كاملاً، طاهراً، مجانّياً وفادياً. لقد أخذ موتنا ليعطينا حياته.

صرخ صرخة عظيمة وأسلم الرّوح: هو الصامت دوماً، أمام القضاء لم يفتح فاه، لم يصرخ تحت وقع السوط يجرح جسمه الطاهر، لم يصرح لحظة عرز المسامير في يديه الخالقتين، لم يصرخ عندما كُللت هامته بالشوك أو ضُربَ على رأسه بقصبة، لقد صرخ حين أسلم الروح.

هي أعمق صرخة يطلقها وجودنا البشريّ حين لا يجد جواباً على السؤال الأكثر حلوكاً يطرحه كلّ يوم: "لماذا الموت وماذا بعد الموت؟" لقد حمل الرّب صرختنا هذه وقدّمها إلى أبيه مع رفع يديه في أعظم تقدمة من تقادم المساء. لقد أعطانا المسيح الجواب بموته، لم يقدّم نظريّات تقنع ربّما إنّما لا تعطي القلب طمأنينته المنشودة، بل قدّم ذاته مائتاً ليقول لنا أن الموت ليس نهاية لكلِّ شيء، فما هو إلاّ البداية، هو الدخول في علاقة حبّ لا تنتهي ولا ترتوي، تستمر أبديّة متجدّدة في معاينة وجه الله والعيش معه في البيت الوالديّ.

إنّما هي أيضاً صرخة من لا صوت لهم، من يمنعهم بيلاطس المعاصر وقياّفا العالم الحديث من إيصال صوتهم: إنّهم ملايين البشر يموتون كلّ يومٍ جوعاً وظلماً وبسبب الحروب، إنّها صرخة الأمّهات اللواتي ترَين إبنائهنّ يموتون بين إيديهنّ، إنّها صرخة المتألّمين من جور الإضطهاد والتمييز والتفرقة، إنّها صرخة المظلوم يأكل الأقوياء حقّه، إنّها صرخة الوالد لا يقدر أن يسدّ رمق أبنائه، إنّه صراخ الإنسان التي يمتهن البشر كرامته وجسده وقيمته، يُستعمل سلعة لإرواء شهوة، ويُرمى. هي كلّها صرخات احتضنتها صرخة المسيح ذاك المساء. 

صرخة المسيح هي صرخة التغيير، صرخة تدعو إنسانيّتنا إلى العودة إلى ذاتها، صرخة يوحنا يدعو الشعب للتوبة قد بلغت ملأها بصرخة يسوع يدعونا للعودة عبر موته إلى صداقتنا مع الله. فلا نتركنّ موت المسيح عقيماً، لنجعل من جرح قلبه بوابة عبور إلى الله أبينا، نعود مع يسوع إلى تلك الصداقة، فيسوع قد مات لنضحي لله أبناء وأصدقاء.

لقد علّمنا المسيح كيف نحوّل الألم من حالة يأس إلى مصدر للخلاص. فالمسيح على الصليب "لا منظر له يُشتهى كما يقول إشعيا ، مزذرىً ومرذول من الناس، كرجل أوجاع يحوّلون وجههم عنه، من يراه يخفي وجهه لكي لا يراه. إنّها خطيئة الإنسان لا رغبة الله، فالله لا يريد الألم، وهو المحبّة المطلقة، هي خطيئة كلّ واحد منّا، خطيئة المعصية ورفض الله، خطيئة جعلتنا نتشوّه ونتألّم، جعلتنا نغرق في وحدتنا، نرغب شرّنا، نبتعد عن الله، وفي الإبتعاد عنه الألم والموت، دون الله نحيا في ظلمة وجود لا طعم له، يضحي كياننا جريحاً، نصير دون هدف ونفقد معنى الوجود. ولأن الخطيئة كانت ضدّ الله، وحده الله يقدر أن يسدّد ثمن عدالتها، الإنسان أخطأ والإنسان الإله سدّد. فوق الصليب دفع المسيح ثمن حريّتنا ومزّق صكّ عبوديّتنا، أعطانا الحريّة، ومع الحريّة أعطانا معنى جديداً للالم. ألم المسيح هو نفسه ألم المريض يعاني وحيداً في ظلام الليل، ويجد أيامه تقارب نهايتها. ألم المسيح هو نفسه ألم الأم تفقد وحيدها، ألم الأب يرى عائلته يخطفها ظلهم حرب وإرهاب، ألم المسيح هو الم الزوجة تفقد زوجها، ألم الأرملة واليتيم والشريد. ألم المسيح هو ألم الفقير لا يقدر أن يسد رمق أطفاله.

ألم المسيح هو ألم الوالدين يرون أبنهم يضيع في متاهات حياة العبث والمخدّرات، وألم الفتاة تبيع جسدها لتحتمي من قسوة الحياة بقسوة من يشتريها أداة متعة. ألم المسيح هو ألم عالمنا اليوم تجرح جمالَه حروب كثيرة، يملأه الحقد والدم والموت. 

هو شرّ كلّه، شرّ لم تُعط له الكلمة الأخيرة، ولا النصر النهائي، فبالمسيح صار للألم معنى، كان شرّاً وشرّاّ يبقى، فالله لا يريد ألَمَنا، ولسنا مرضى لنفتّش عن الألم، إنّما نحن أبناء الرجاء، نؤمن بإله تألّم من أجلنا وانتصر على الألم، لم يبق معلّقاً على الصليب ولا ابتلعه إلى الأبد ظلام القبر. لقد حوّل المسيح الألم من مصدر يأس وهلاك إلى وسيلة قداسة وبطولة: لقد مات ليعطينا الحياة، حوّل الشرّ إلى خير، أستخرج من الألم حياة، حوّل اليأس إلى تضحية، حول آلة موت العبيد إلى آداة تحرير للآخرين. فقط بالإيمان نفهم معنى ألمنا، وبالرجاء نقدر أن نغيّر اتّجاهه، وبالمحبّة نعطي الحياة للآخرين. فداء المسيح للبشريّة يعلّمني أن أصليّ للمرضى حين أكون مريضاً، وأقدّم آلامي للمعوزين. ألم يسوع يدعوني إلى تحرير الآخرين من ألمهم، وإشراك المعوزين في خيراتي، وردّ الكرامة إلى من أفقدهم المجتمع كرامتهم.

الصليب هو فعل طاعة للآب، فالمسيح الّذي قال: "طعامي أن أعمل مشيئة أبي" قد أطاع حتى النهاية هذه المشيئة، "لتكن مشيئتك لا مشيئتي" صرخت بشريّته في بستان الزيتون ليعلّمنا أن نثق بالآب، ونعلم أنّه يحضر الأحسن والأفضل والأقدس لكلّ واحد منّا. يسوع المصلوب يعلّمنا أن نثق بالله حين نكون في قمة ألمنا. هذا ما فعله الربّ، وما فعله القدّيسون، وما يفعله اليوم إخوة لنا وأخوات، بدل ثورات الغضب يصلّون، وبدل اليأس يصبرون، ولأنّهم يحبّون، يعلمون أن لا يمكن للموت أن ينتصر. 

إن موت المسيح يعطي المعنى الحقيقيّ للموت، ولو لم يمت المسيح لما كان لنا أي رجاء. إلهنا إله يحبّ، ويتألّم لأنّه يحب، يشارك أحبّائه الألم، ويعلّمهم كيف يكون الموت بوابة عبور نحو الحياة. لقد وُضعت علي قبر المسيح صخرةٌ كبيرة، وكم من صخور تحجب بصيص الأمل عن قلوبنا؟ كم هي ثقيلة صخور مشاكلنا وأمراضنا؟ نرزح تحتها ونقول: "ها هي النهاية، وما من خلاص". لقد سدّت الصخرة باب القبر، وحاولت التهام الحيّ والمحيّي فكان كخميرة يزرع الحياة في عالم الموت. حاول القساة إخماد نور المسيح، كما يخمد منطق العالم كلّ بصيص رجاء في قلوبنا، يضعنا في قبرٍ مظلم، يقيّدنا برغبات وأهواء وأحقاد تشدّنا إلى منطق الظلام، إلى منطق القبر والموت، وتحجب عن تفكيرنا حقيقة الحياة ومعناها. هل يبقى عالمنا في ظلمة قبره؟ هل يبقى المظلوم مظلوماً، والجنين مجهضاً والعجوز لا قيمة له؟ هل يبقى الفقير عالّة والمتألّم ثقلاً علينا؟ هل نُبقي إخوة لنا وأخوات في ظلام قبر حياتهم، نسدّ قبرهم بصخرة حقدنا أو عدم مبالاتنا، ندفنهم في عدم اكتراثتنا لئلا يزعجنا صراخهم؟ موت المسيح دعوة لنا للتفتيش عن قيمة الحياة، وإعلان ثقافة الحبّ والتخلّي عن منطق العنف، فالعنف قتل المسيح البريء على الجلجلة ويقتل ملايين الأبرياء على جلجلات عالم اليوم، فهل نكمل السير وكأنّ شيئاً لم يكن؟ هل نترك المسيح يموت مجدّداً كلّ يوم؟ هل نغسل أيدينا في دماء أبرار هذا العالم وأبريائه؟ هل نبيع المسيح بثلاثين فضّة إهمالنا؟ هل نكون مثل من أعمى الحقد قلوبهم فصرخوا إرفعه"، إرفعه عنّا، فهو كثير التطلّب وصعب الإتّباع؟ هل نقتل المسيح مجدّداً إذا جاء اليوم إلى حياتنا؟ 

وتبقى مريم، الأمّ المتالّمة والمعلّمة في الإيمان، ترى وحيدها معلّقاً فتقف إلى جانب التلميذ، هي إلى جانبنا تعلّمنا معنى التتلمذ وحمل الصليب، تعلّمنا أنّ عمق الإيمان يتجلّى من خلال الصبر والرجاء والإتّكال على الله، من خلال قبول صلبان حياتنا لتحويل إلى وسيلة قداسة. مريم هي الأمّ الحزينة وهي أمّ الرجاء، معلّمة في الإيمان، حزنت، بكيت، تألّمت فقدانها وحيدٍ احبّته وكان ثمرة وعود الله لها ولشعبها، حزنت ولم تغضب، بكيت ولم تيأس، تألمت وما ثارت أو رفضت الله في حياتنا. هي المعلّمة تقود التلميذ إلى الرّب، وتبقى قربه عندما يحمل صليبه، كنجمة الصباح تقود سفينتا إلى ميناء ابنها حين تضرب بحر حياتنا عواصف اليأس والألم. أمين.

 

صور