عظات
٣‏/١٢‏/٢٠١٦ زمن القيامة | الأب بيار نجم ر.م.م

خميس الصعود

هو خميس الصعود، صعود الرّب الى السماء وجلوسه في المجد عن يمين الله الآب.  نفرح ونبتهج لأنّ الرّب بقيامته أقامنا، وبصعوده يدعونا الى مشاركته مجد ملكوت السماوات.  في هذا العيد نكتشف دعوتنا الحقيقيّة:  أن نكون في مسيرة دائمة نحو الملكوت، لا نكلّ ولا نتعب رغم صعوبة الطريق، وضيق الباب.  نسقط أحياناً ونحن نسير، نقوم بنعمة الله تائبين ونكمل المسيرة. وجودنا البشرّي لا ينتهي في هذا العالم، نحن لم نقم مع المسيح لنعود ونموت وندفن، فقيامتنا التي تتمّ بالرّب تأخذ كمال صورتها في حدث الصعود الى السماء، وجودنا البشري يأخذ قِمّة معناه في حدث الصعود. نحن لسنا مجرّد مخلوقات بين مخلوقات أخرى تتمايز عنها بالكيان أو بالشكل، بل نحن كائن فريد دعاه الرّب الى مشاركته مجد وجوده، دعاه ليصبح إلهاً من خلال مشاركته الحياة الإلهيّة.

(مر 16 /15-20)

ثُمَّ قَالَ لَهُم: "إِذْهَبُوا إِلى العَالَمِ كُلِّهِ، وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّها. فَمَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ يَخْلُص، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَسَوْفَ يُدَان. وهـذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنين: بِاسْمِي يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِين، ويَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ جَدِيدَة، ويُمْسِكُونَ الْحَيَّات، وَإِنْ شَرِبُوا سُمًّا مُمِيتًا فَلا يُؤْذِيهِم، ويَضَعُونَ أَيْدِيَهُم عَلى الـمَرْضَى فَيَتَعَافَوْن". وبَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ الرَّبُّ يَسُوع، رُفِعَ إِلى السَّمَاء، وجَلَسَ عَنْ يَمِينِ الله. أَمَّا هُم فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا في كُلِّ مَكَان، والرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُم وَيُؤَيِّدُ الكَلِمَةَ بِمَا يَصْحَبُها مِنَ الآيَات.

صعود الرّب هو دعوة الى الرّجاء، نرجو على هذه الأرض ما سبق وحضّره لنا الرّب يسوع، نحيا في العالم منترقّبين ساعة اللّقاء، ساعة ملاقاة وجه الرّب الحبيب، عندها فقط يصل الإنسان الى غاية وجوده ويحيا السعادة الحقّة.  حين يعلم أن الأرض هذه في مجرّد محطّة على طريق الأبد، نحلّ فيها حيناً ونتوق الى بيت الآب الأبديّ حيث نتّحد الى الأبد بالله خالقنا في رباط من حبّ لا ينتهي.

وقالَ لهُم: اَذهَبوا إلى العالَمِ كُلِّهِ، وأعلِنوا البِشارةَ إلى النـّاسِ أجمعينَ

حدث الصعود هو ليس حدث الهروب من العالم، بل هو يعطي العالم معنى وجوده الحقيقيّ.  لم يقل الّرب للرسل: إبقَوا مجتمعين وصلّوا الى أن تحين ساعة صعودكم أنتم أيضاً"، بل أرسلهم الى العالم ليعلنوا للعالم حقيقة الإنجيل ويعطونه الخلاص.  إن عمل الخلاص الّذي تمّ بموت الرّب وقيامته لا بدّ أن يبقى مستمرّاً من خلال رسالة الكنيسة التي تعلن الإنجيل وتكمّل في حياتها وجود الرّب ومحبّته للبشريّة.

حبّ الرّب للعالم ليس اختياريّاً أو إنتقائيّاً، إنّما هو حبّ شامل.  الرّب يريد خلاص البشريّة كلّها، ولأنّه يثق بنا، أعطانا أن نكمل نحن عمله هذا.  الصعود هو مسؤوليّة ثمينة وكبيرة تُلقى على عاتق كلّ واحد منّا.  صعود الرّب الى السماء يدعونا الى أن نتحمّل مسؤوليّة خلاص الإخوة ونحمل لهم الإنجيل، دون تمييز بين مكان وآخر، بين لون وآخر، بين دين ودين أو بين الإنتماءات.  عملنا هو أن نصبح مسيحاً آخر، نسعى الى خلاص البشريّة بأسرها، لنكون على مثال السيّد، كلاّ للكلّ لكي نربح الجميع الى الملكوت.

"هذه هي رسالتنا، أن نحمل الإنجيل الى الجميع، ليختبر الجميع فرح المسيح يسوع وليعمّ الفرح كلّ مدينة ندخلها.  هل هناك مدعاة للفرح أكثر من هذا؟ هل هناك أعظم وأبهج من المشاركة في نشر كلمة الحياة في العالم بأسره؟ إعطاء ماء حياة الرّوح القدس؟  إعلان كلمة الحياة والشهادة لها في العالم، هذا هو محور رسالتنا... إن نكون معاونين في حمل الفرح الى الآخرين... خاصة من هم حزانى أو من قد فقدوا الرّجاء". (البابا بندكتوس السادس عشر، 27 نيسان 2008).

كُلُّ مَنْ يُؤمِنُ ويتَعَمَّدُ يَخلُصُ، ومَنْ لا يُؤمِنُ يَهلِك والّذينَ يُؤمِنونَ تُسانِدُهُم هذِهِ الآياتُ: يَطرُدونَ الشَّياطينَ باَسمي، ويَتكلَّمونَ بِلُغاتٍ جَديدةٍ،  ويُمسِكونَ بأيديهِم الحيّاتِ. وإنْ شَرِبوا السُّمَّ لا يُصيبُهُم أذًى، ويَضعونَ أيديَهُم على المَرضى فيَشفونَهُم. 

هذه الكلمات تحدّد غاية وجود الكنيسة: إكمال عمل المسيح ليعم إنجيله الأرض قاطبة، وإعطاء كلّ إنسان في كلّ مكان وزمان إمكانيّة إختبار خلاص الرّب في حياته الخاصّة.  من يؤمن ويعتمد يخلص، لأنّه يشارك الرّب في صعوده وجلوسه عن يمين الآب.  فالتبرير الّذي نناله بالرّب يسوع، ومن خلال المعموديّة، هو الّذي ينزع عنّا خطيئة آدم ويعيدنا من جديد الى حياة النعمة.  لا معنى للكنيسة من دون رسالة، وإن نحن أهملنا هذه الرسالة، نخون رغبة الرّب ونفشل في تحقيق خلاصة في عالم اليوم.

خمس علامات تؤكّد حضور الرّب في حياة الكنيسة من خلال رسالة التلاميذ:

- يطردون الشياطين: هو تحقيق عملّي لما قام به الرّب في حياته وموته وقيامته، هو انتصار الخير على الشرّ وتحقيق ملكوت الرّب.  هو الإلتزام في قناعات يسوع في حياة التلميذ اليوميّة، أن يكفر بما يقدّمه له روح الشرّ من ملذّات وحقد ودمار وعنف، وإعلان سلام المسيح وحبّه وغفرانه في عالم يتألم بسبب كثرة العنف والحروب.

- يتكلّمون بلغات جديدة: هي موهبة سوف تتحقّق ساعة العنصرة بحلول الرّوح القدس.  هي القدرة على إعلان رسالة يسوع الى الشعوب كلّها.  الربّ هو الّذي يساعدنا على إيصال إنجيله حتى عندما تخور قوانا الإنسانيّة ونفقد الأمل.  تكلم الألسنة لإيصال الإنجيل هو القدرة على الدخول في علاقة مع كائن يختلف عنيّ، وحضارة غريبة وثقافة متمايزة، والرّب يعلن أن رسالتنا هي أن نزرع إنجيله في كلّ ثقافة وعرق ولسان.

- يمسكون بإيديهم الحيّات:  الأفعى التي أعلن الرّب في سفر التكوين أنّها تسعى للسع عقبنا قد أمسكناها بأيدينا.  نحن في عالم يملأه العنف والخوف واليأس، أفاعٍ كثيرة تسعى الى زرع الذعر في قلوبنا، والرّب يعلن أن أدوات الشرّ كلّها تعجز أمام تلميذ الرّب المؤمن.  نحن مدعوّون الى أخذ المبادرة والسيطرة على الشرّ بالخير، إمساك الأفعى هو شلّ لحركتها، ونحن التلاميذ مدعوّون الى السيطرة على الشرّ الموجود أوّلاً في داخلنا وبعدها في الكون كلّه.

- وإنْ شَرِبوا السُّمَّ لا يُصيبُهُم أذًى: هذه العلامة ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالعهد القديم، وبالتحديد بسفر العدد 21، 4-9.  حين كاد الشعب يفنى بسبب لسعات الأفاعي والسمّ القاتل الّذي تسبّبه، أمر موسى الشعب بأن يجعلوا على قمّة الجبل أفعى نحاسيّة، يكون أن كلّ من نظر اليها يشفى.  لقد صارت هذه الحيّة النحاسيّة المنصوبة على جبل نبو رمزاً للصليب الّذي غُرس على جلجلة أورشليم، وكلّ من نظر اليه يشفى.  هي علامة من الرّب أن في صليب الرّب الخلاص، فلا خوف على من يتأمّل به من سمّ الشرّ والشيطان.  بالصليب ينال التلميذ الغلبة على الخوف والموت والشّرير، لأنّ بالصليب فقط يطتشف معنى وجوده وقيمة حياته.

- ويَضعونَ أيديَهُم على المَرضى فيَشفونَهُم: هي أيضاً علامة نهيوّية تشير الى حضور الرّب الفاعل دوماً في كنيسته من خلال رسالة الكنيسة.  لقد صار الشفاء للإنسان بواسطة المسيح يسوع، وصعود الرّب الى السماء يتحوّل الى فعل إرسال للتلميذ لإكمال مسيرة الرّب إذ يضعون حدّاً لألم الإنسان.  فالمرض لم يعد بعد المسيح سبب موت ويأس، بل صار وسيلة قداسة واشتراك بصليب السيّد، علامة حسيّة ومنظورة لإنتصار الصليب كعلامة للحياة على المرض كبوابة للموت والقنوط.  وضع اليد من قِبل التلاميذ هو استمراريّة لعمل يسوع، وشفاء الأمراض ليس مجرّد أعجوبة، بل هو عمل كلّ تلميذ يسمع دعوة الرّب يسوع يقول له: أستمر في العمل وكنّ رسولي، أكمل العمل الّذي قد بدأته أنا".  الرّب يدعونا لنكون الى جانب الإخوة، نشفيهم من أمراضهم الجسديّة من خلال الوقوف الى جانبهم والصلاة لأجلهم ومسحهم بزيت الرّب.  نشفيهم من أمراضهم الرّوحيّة من خلال مساعدتهم على المصالحة مع الله، مع ذاتهم ومع الآخرين من خلال سرّ المصالحة والتوبة.  نشفيهم من أمراضهم النفسيّة، أمراض الوحدة والخوف واليأس، حين نؤكّد لهم أن الرّب حاضر يرعاهم، وهو حاضر من خلالنا، حين يدركون بواسطتنا كم أن الرّب يحبّهم ويهتمّ بشأنهم.

الصعود دعوة لكلّ تلميذ، لا للهرب من العالم ومن واجبات الرسالة المسيحيّة بحجّة الإختلاء والتأمّل، بل هو دعوة لكلّ مسيحيّ ليكون أداة للسيّد، فالرّب يثق بنا ويكل إلينا إكمال الرسالة ليعمّ الإنجيل المسكونة.  الصعود هو يوم انطلاق الكنيسة التي سمعت الرّب يدعوها للإنطلاق الى البشارة، ليعم فرح الإنجيل الكون بأسره.