عظات
٢‏/١‏/٢٠١٧ زمن الميلاد المجيد | الأب بيار نجم ر.م.م

يوم السلام العالمي

هو رأس السنة، هو يوم أعلنه البابا بولس السادس يوماً للسلام العالميّ، يوم التأمّل في معنى السلام، يوم الصلاة من أجل السلام، يوم المبادرة الشخصيّة في سبيل عيش السلام الداخليّ، في حالة مصالحة ووئام، مع الذّات، مع الآخرين، ومع الله. 

 

ولكن أي سلام هو هذا؟ هو السلام الغائب دوماً، هو سلام أضاعه عالمنا، أبدله بمنطق العنف، والحرب، بمنطق الإرهاب والقمع، بمنطق الخوف والقلق. قلبنا صار في حالة هلع دائم: نخاف من كلّ شيئ ومن كلّ إنسان. نخشى الدخول في علاقة مع الآخر، لأنّ منطق الآخر تحوّل من منطق القريب الّذي أحيا معه، الى منطق الغريب الحامل الخطر والإذية. 

(يو 14: 27 - 31)

"السَّلامَ أَستَوْدِعُكُم، سَلامي أُعطيكُم. لا كَما يُعطيهِ العالَمُ أنا أُعْطِيكُم. لا يَضْطَرِبْ قَلْبُكُم ولا يَخَفْ! سَمِعْتُم أنِّي قُلْتُ لَكُم: أنا ذاهِبٌ ثُمَّ آتي إلَيكُم. إن تُحِبّوني تَفْرَحوا بِأنِّي ذاهِبٌ إلى الآب، لأنَّ الآبَ أعظَمُ مِنّي. قُلْتُ لَكُم هذا الآنَ قَبْلَ حُدوثِهِ، حتّى إذا حَدَثَ تؤمِنون. لَن أُحَدِّثَكُم بَعْدُ بأُمورٍ كَثيرة، لأنَّ سُلطانَ هذا العالَمِ يأتي، ولا سُلطَةَ لَهُ عَلَيَّ، ولَكِن، يَجِبُ أن يَعرِفَ العالَمُ أنّي أُحِبُّ الآب، وكما أوصاني الآبُ هكذا أفْعَل".

 

 

"المسيح هوَ سَلامُنا، هوَ جَعَلَ الإثنَينِ واحِدًا، وفي جَسَدِهِ نَقَضَ الجِدارَ الفاصِلَ بَينَهُما، أي العَداوَة"، يقول بولس الرّسول، ليعلن أن حياتنا كمسيحيّين هي إيمان مطلق بمنطق السلام، لأنّ ألهنا هو أله السلام، تجسّد ليزرع منطق السلام في قلبنا، في حياتنا وفي عالمنا. هي كلمات نجدها اليوم دون معنى، نظنّها وهماً ونظرّية مستحيلة التطبيق، لأنّنا قد حوّلنا عالمنا الى ساحة حرب بين الإخوة، وصارت مجتمعاتنا واحات صراع وعراك، وصارت بيوتنا مملوءة عراكاً وصراخاً وطلاق. لقد صار قلبنا ضجيجاً مستمرّاً، يشتاق الى قليل من السلام يطرد منه الخوف من الآخرين والقلق من غدٍ مظلم. حوّلنا حقيقتنا من حقيقة بشرّية خلقها الله لتكون عائلة، الى جماعات متخاصمة، متقاتلة، يدفعها الطمع والحقد ورفض الإختلاف. 

لقد جاء يسوع يقول لنا: "السَّلامَ أَستَوْدِعُكُم، سَلامي أُعطيكُم"، ففضّلنا منطق الحرب على منطق السلام، لقد جاء يقول لنا: "ا يَضْطَرِبْ قَلْبُكُم ولا يَخَفْ"، فما هو حالنا اليوم؟ نحيا في خوف دائم، في قلق مستمرّ، نخشى الحاجة، ونخشى شرّ الآخرين. نخاف على القليل الّذي نمتلكه ونخاصم الآخرين على ما يملكوه. امتلأت قلوبنا غيرة وحسداً، وصار منطق المخاصمة محرّكنا الأوحد. 

في عائلاتنا صرنا نفقد السلام: خصام بين الإخوة، عراك بين الزّوجين، والطلاق بات القاعدة. صار الصبر صعباً، واحتمال نواقص الآخر مستحيلاً. بدأنا نفقد معنى التضحية: كنّا نضحّي لأنّنا نحبّ، فصرنا نهرب لأنّ التضحية تجعلنا نفضّل خير الآخر على سعادتنا. 

في مجتمعنا فقدنا السلام: كلّ شيء يفرّقنا، حتى ما هو غير أساسيّ. نتخاصم بسبب السياسة، وبسبب الدّين، وبسبب الثقافة. نتخاصم لأنّنا مختلفون، نرفض الإختلاف، نهرب منه، نظنّه خطراً علينا، وننسى أن الإختلاف هو غنانا وثروتنا. نربّي أولادنا على منطق رفض الإختلاف، وكره الإختلاف واحتقار ما هو مختلف، فنربّى في براءة طفل اليوم حقد رجل الغد. 

عالمنا بأسره صار ساحة حرب شاملة، ٢٣٢ مليون قتيل بين ١٩٠٠ والعام ٢٠٠٠، المئات من الحروب اليوميّة، منها المعلنة ومنها الصامتة. عشرات الحروب في القارة الأفريقيّة وحدها اليوم، ولا أحد يتكلّم، لأن مصالح الدول هي في الصمت عن الحروب والأبادات الجماعيّة . آلاف الأطفال يموتون كلّ يوم، بسبب الحرب، بسبب الجوع، بسبب الإهمال، وبسبب شرّ الإنسان. حرب في الأراضي المقدّسة، كم من الأطفال ماتوا وما زالوا يموتون؟ كم من هيرودس لا يزال يكمل عمل هيرودس الأوّل؟ وكم من "صراخ في الرامة" وكم من "راحيل تأبى أن تتعزّى لأنّهم زالوا من الوجود"؟ 

لقد حوّلنا حشا الإمرأة، قدس أقداس الحياة، الى مسرح عنف يطال الجنين، فلم تبق الحرب صراعاً بين أقوياء، بل صارت تطال الجنين البريء، بحجج كثيرة: حريّة الإمرأة، راحة الزّوجين، تنظيم النسل... فصار العنف طبيعة ثانية فينا، طبيعة تنافس طبيعتنا الحسنة الأصليّة، وتسعى الى قتلها. 

لقد فضّلنا رخاءنا الإقتصاديّ وقوّتنا النقديّة على خير الطبيعة نفسها، فدمّرناها: جبالنا تصير صحراء، الجليد يذوب، والأمواج تبتلع بلداناً بأسرها. اليست هي نتيجة حرب نشنّها على الطبيعة؟ نحرق أشجارنا، نلوّث هواءنا، بحرنا يضحي مكبّ نفايات، ونقول: لماذا المرض في العالم. هي نتيجة العنف نشنّه على كلّ ما هو حولنا، نريد إخضاعه وامتلاكه، نريد استعمال كلّ ما هو موجود، نرغب في أن نكون أسياد الكون، نريد أن نصبح آلهة. 

بداية السنة هي أكثر من ساعة احتفال وفرح، بداية السنة يمكنها أن تكون نقطة انطلاق جديدة لكلّ واحد منّا، نقوم بفحص ضمير، لنرى كم يخزن كلّ واحد منّا من غضب وعنف وخصام، ونعود الى ذاتنا، نسمع المسيح يقول لنا: "لا كَما يُعطيهِ العالَمُ أنا أُعْطِيكُم السلام"، فسلام المسيح مختلف عن سلام العالم. سلام العالم هو نقص الحروب، أمّا سلام المسيح فهو التزام ومبادرة. سلام العالم هو سلام قائم على الخوف من شرّ الآخر، أمّا سلام المسيح فهو ثقة الآخر واىمان به. سلام العالم هو سلام يسعى الى التسلّط، وسلام المسيح يجد كماله في خير الآخر وفي خدمته. سلام الأمم يقوم على الخوف من عقوبات اقتصاديّة وعسكريّة، أمّا سلام المسيح فأساسه شريعة المحبّة وحدها. سلام العالم هو سلام الأقوياء، لا يعير الضعيف اهتماماً، وسلام المسيح هو سلام الإله الّذي أصبح فقيراً ليعطي للفقير الأمل. سلام العالم هو سلام يسعى الى أجر وثمن، وسلام المسيح هو سلام مجّانيّ، يعطي لأنّه يحبّ ويبذل الذات. 

 

لتكن بداية هذا العام بداية جديدة لكلّ واحد منّا، لنطرد من حياتنا العنف والحرب وشهوة التسلّط، ونصبح تلاميذ المسيح، يملأ السكون قلبهم، بسلام مع الذات، يقبلون أنفسهم رغم نقصهم، ويعلمون أن الله قادر على إعطائهم القداسة دون حدود. بسلام مع الآخرين، دون خوف ولا حذر، يحبّون الآخر، يحترمون اختلافه ويسامحون نقصه. لتكن بداية هذه السنة بدايتنا نحن، وخطوة جديدة على درب القداسة.