عظات
١٩‏/٤‏/٢٠١٧ زمن العنصرة | الأب بيار نجم ر.م.م

الأحد السادس من زمن العنصرة

يسوع وجماعة الرسل، التلاميذ الّذين يتحوّلون إلى مرسلين. لقد آن الآوان أن ينطلق التلاميذ: لقد سمعوا نداء يسوع، قبلوا دعوتهم، سمعوا تعليمه، شاهدوا معجزاته، أبصروا متألّماً، ميتاً، موضوعاً في القبر، شاهدوا القبر فارغاً وأبصروا يسوع بينهم قائماً منتصراً. الحمل الذي قدّم ذاته محرقة، هو نفسه يدعو التلاميذ ليكونوا بدورهم حملاناً، يرسلهم الرّب بين الذئاب، ليحملوا البشارة إلى الكون بأسره ويبدّلوا واقعه الأليم.

متّى 10: 16-25

هَا أَنَا أُرْسِلُكُم كَالـخِرَافِ بَيْنَ الذِّئَاب. فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالحَيَّات، ووُدَعَاءَ كَالحَمَام. إِحْذَرُوا النَّاس! فَإِنَّهُم سَيُسْلِمُونَكُم إِلى المَجَالِس، وفي مَجَامِعِهِم يَجْلِدُونَكُم. وتُسَاقُونَ إِلى الوُلاةِ والـمُلُوكِ مِنْ أَجْلي، شَهَادَةً لَهُم وِلِلأُمَم. وحِيْنَ يُسْلِمُونَكُم، لا تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَو بِمَاذَا تَتَكَلَّمُون، فَإِنَّكُم سَتُعْطَونَ في تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ. فَلَسْتُم أَنْتُمُ الـمُتَكَلِّمِيْن، بَلْ رُوحُ أَبِيْكُم هُوَ الـمُتَكَلِّمُ فِيْكُم. وسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلى الـمَوْت، والأَبُ ابْنَهُ، ويَتَمَرَّدُ الأَوْلادُ عَلى وَالِدِيْهِم ويَقْتُلُونَهُم. ويُبْغِضُكُم جَمِيْعُ النَّاسِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي، ومَنْ يَصبِرْ إِلى الـمُنْتَهَى يَخْلُصْ. وإِذَا اضْطَهَدُوكُم في هـذِهِ الـمَدِينَة، أُهْرُبُوا إِلى غَيْرِهَا. فَالـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: لَنْ تَبْلُغُوا آخِرَ مُدُنِ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَان. لَيْسَ تِلْميذٌ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ، ولا عَبْدٌ مِنْ سَيِّدِهِ. حَسْبُ التِّلْمِيذِ أَنْ يَصِيْرَ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ، والعَبْدِ مِثْلَ سَيِّدِهِ. فَإِنْ كَانَ سَيِّدُ البَيْتِ قَدْ سَمَّوْهُ بَعْلَ زَبُول، فَكَمْ بِالأَحْرَى أَهْلُ بَيْتِهِ؟

 

لا يمكننا أن نفعم هذا النّص خارج الإطار الإجتماعيّ والتاريخيّ لكتابته: هو يعكس حقبة الإضطهاد التي عانتها الكنيسة في القرن الأوّل. الإضطهاد من قبل المجمع اليهوديّ أوّلاً، الّذي أصدر الأمر بملاحقة الناصريّين ومحاكمتهم (لهذا أرسلوا شاول إلى دمشق ليلاحق المسيحيّين هناك، وأعدموا إسطفانوس في أورشليم، وقطعوا رأس يعقوب الرسول في أورشليم أيضاً)، يشير الإنجيليّ إلى هذا الإضطهاد اليهوديّ بكلمة "مجامعهم". ولكن الإضطهاد لم يكن مقتصراً على اليهود فقط، بل أن الرومان أيضاً نظّموا حملة اضطهاد للمسيحيّين في اورشليم أوّلاً، بناء على طلب شيوخ اليهود، وفي سائر أصقاع الأمبراطوريّة أيضاً، ولهذا يشير الإنجيليّ إلى "المحاكم"، وهي قد تعني المحكمة الدينيّة اليهوديّة، ولم يكن من حقّها إصدار حكم بالإعدام دون موافقة السلطة الرومانيّة، ولكنها تعني أيضاً المحاكم الرومانيّة التي كان يمثل المسيحيّون أمامها، وفي أغلب الأحيان ليسمعوا حكم الإعدام إن لم ينكروا إيمانهم بالمسيح.

الإضطهاد يأتي من الجميع إذاً، من اليهود ومن الوثنيّين، ولكن الرسالة التي يحملها الرسل هي أيضاً موجّهة إلى اليهود وإلى الوثنيّين، فما من أحد يُستثنى من ملكوت الرّب، وبشرى الخلاص لا بدّ أن يحملها الرسول لجلّاده، لا بدّ أن يحملها الحمل للذئب رغم خطر الموت، لا بدّ أن يحملها الرسول إلى جلاّده ليبدّل قلبه.

الحمل والذئب، الحيّة والحمامة هي كلّها عناصر نجدها في العهد القديم: أشعيا النبيّ حين يتكّلم عن حلول ملكوت الله، عن زمن مجيء المسيح ليملك نهائيّاً على الكون، يقول أن في تلك الأيّام "يسكن الحمل والذئب معاّ"، وبالتالي، فهذا الإرسال للتلاميذ هو ليس إلاّ إعلان لإقتراب ملكوت الله: التلاميذ الحملان أرسلهم الرّاعي يسوع للتبشير الذئاب. هو الخلاص الشامل الّذي جاء الرّب يعلنه.

أمّا الحيّة والحمامة فهما أيضاً رمزان من رموز العهد القديم. الحيّة في سفر التكوين، كما في آداب الشرق الأوسط القديم كلّها، كانت رمزاً للحكمة وللمعرفة، أمّا الحمامة فكانت رمز روح الله: قبل الخلق كان روح الله يرفرف على الغمر، وفي ساعة معموديّة يسوع نزل الرّوح بشبه حمامة على المسيح في الأردن. والحمامة أيضاً هي من حمل الغصن الأخضر لنوح معلناً اقتراب الخلاص. وبالتالي، فإن دعوة الرسل، وكلّ واحد منّا، هو أن نجمع في إيماننا ذكاء الحيّة وطاعة الحمامة، أي أن نعلم كيف نضع عقلنا وعلمنا ومعرفتنا في خدمة الله، ونحاول أن نصل إلى معرفة الله أكثر وأكثر من خلال معرفتنا وقوانا العاقلة.

إنّما العقل وحده لا يكفي، فللوصول إلى الله لا بدّ من عمل الرّوح في حياتنا، الرّوح الّذي يقودنا إلى البنّوة الحقّة، فهو يعلّمنا ماذا نقول، لأنّ الحقيقة العلميّة وحدها لن تقنع، فلا بدّ من لمسة الرّوح في حياتنا لنؤمن، ونجعل الآخرين يؤمنون.

تساقون إلى الحكـام والملوك من أجلي، لتشهدوا عندهم وعند سائر الشعوب: يرى الشرّاح في هذه صيغة الفعل المستعملة، أي صيغة المجهول، ما يُدعى في الكتاب المقدّس: المجهول الإلهيّ. أي أنه يمكننا  أن نقرأ الآية تحت الشكل التالي: "يسلمكم الله إلى الحكّام والملوك من أجلي". رغبة الله ليست في إسلامنا إلى العذاب، بل في الشهادة أمام الشعوب كلّها "عندهم وعند سائر الشعوب" أن خلاص الله قد بدأ يتحقّق. وهنا يأخذ التلميذ دور يسوع، فالمعلّم قد أسلمه الآب إلى أيدي الخطأة من أجلنا، ومن أجل الخطأة، ليعطي الخلاص للجميع، والآن يضعنا الآب أيضاً، مثل الإبن، بين قضاة هذا العالم وحكّامه، لنشهد أمام العالم كلّه بيسوع وبالإنجيل. وهكذا يحوّل الرّب شرّ الإضطهاد إلى خير للعالم، ويوصل من خلال ألمنا رسالة الخلاص والشهادة ليسوع المسيح، لكيما يؤمن العالم كلّه وينال الخلاص.

دعوة التلميذ: الإيمان بالله في ساعة الإضطهاد

في صورة النعاج والذئاب، كما في صورة الحيّة والحمامة، يصف الإنجيليّ صعوبة الوضع الّذي سوف يجد الرسول نفسه به. هو في خطر الموت دوماً، ولكنّ لا بد من الإنطلاق. وتبقى عبارة "أنا أرسلكم" ضمانة الرسل: هم ليسوا وحدهم، إنّهم رسل يسوع، والراعي لن يترك خرافه، هو الحاضر دوماً ليقويّ ويشجّع. مهما كان نوع الإضطهاد اليوم، لا بدّ من أن أطرح على نفسي كلّ يوم "هل أثق بالرّب فعلاً؟".

سيسلم الأخ أخاه إلى الموت، والأب ابنه، ويتمرد الأبناء على الآباء ويقتلونهم: يشدّد الرّب هنا أيضاً على الإنقسام الّذي سوف يحصل بسبب رسالة المسيح. ويستعمل الرّب هنا ما جاء في نبوءة ميخا النبّي في العهد القديم: " الابن يستهين بأبيه، والابنة تقوم على أمها، والكنة أيضا على حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته  أما أنا فأخلص للرب،وأنتظر الإله مخلصي إلهي الذي يسمعني". هو الإنقسام الّذي سوف يحصل بين من يقبل منطق المسيح ومن يرفضه، بين من يعتنق منطق المغفرة ومن يصرّ على منطق الإنتقام، بين بين يقبل بالسلام ومن يبشّر بالعنف، بين من يرى في المحبّة طريقاً لخلاص العالم ومن يرى في الحقد وسيلة لفرض قوّته. هو الإنقسام بين الآب وابنه، بين الأخ وأخيه، فما من عائلة أهمّ من يسوع المسيح، وما من قرابة دمويّة يمكنها أن تسمح لنا بترك الإنجيل. إيماننا بالمسيح يقتضي اتّباعه، هو يريدنا بكلّيتنا له، فلا يمكننا أن نقول: "لا أتبعك لأنّ أبي لا يريد"، ولا يمكن للأب أن يقول "أحبّ ابني" دون أن يختار يسوع، فالحبّ الحقيقيّ هو الحبّ الّذي يأتي في ملك الحبّ، دون الرّب تكون وحدة عائلتنا انقساماً ودماراً، وحين نختار الرّب، نصل إلى الوحدة الحقّة، وحدة من آمن بيسوع وتبعه. 

ويبغضكم جميع الناس من أجل اسمي. والذي يثبت إلى النهاية يخلص: على التلميذ أن يعلم أن بالتزامه انجيل المسيح، سوف يكون كسائر عكس تيّار هذا العالم، يعلمن قيما ومبادئ تتعارض وقيم عالمنا ومبادئ مجتمعنا الماديّ. فالعالم له مقاييسه، وللمسيح مقايس متمايزة، العالم يحكم على الظاهر، والتلميذ ينظر إلى جوهر الحقائق، المجتمع يسعى إلى صداقة القوّي، والتلميذ يخدم الفقير، العالم يبحث عن مصالحه، والمسيح يقول لنا أن نبذل ذاتنا من أجل الآخرين. العالم يغمض أعينه عن الظلم والجور وقلّة العدالة، ودعوة التلميذ أن يكون صوتاً صارخاً في سبيل تحرير إخوته المستعبدين بثقل المادة وجشع الإقتصاد والمال والسلطة. لذلك لا يمكن لمنطق التلميذ أن يدخل في علاقة مساكنة مع منطقٍ يجرح صورة الله في الإنسان ويحطّ من كرامة البشر. لا بدّ للتلاميذ أن يشهدوا لمنطق المسيح، ولا بدّ أن يجابهوا الرّفض والإضطهاد والألم، في سبيل نشر منطق الإنجيل، وفي سبيل تحرير البشر من عبودية المادة والخطيئة.

وإذا اضطهدوكم في مدينة، فاهربوا إلى غيرها. الحق أقول لكم: لن تنهوا عملكم في مدن إسرائيل كلها حتى يجيء ابن الإنسان. يقول لنا المسيح اليوم، كما قال لتلاميذه حين أرسلهم، أنّنا أبناء الملكوت، نحن هوّية أبناء الله، كلّ مدينة هي بيت لنا، كلّ مكان هو ملاذنا، لأنّ كلّ البشر هو إخوة لنا وأخوات. وإن لن تقبلنا مدينة ما، فلننطلق إلى مدينة أخرى، دون تعب، دون يأس أو قنوط. كلّ واحد من إخوتنا البشر هو هذه المدينة التي يجب أن نبشّرها بالمسيح، فإن رفضنا واحد لا نعلن فشلنا، بل ننطلق إلى مدينة أخرى، ننطلق إلى إنسان آخر، ننطلق إلى فقير آخر نخدمه ونحبّه. فدور التلميذ هو التبشير، هو رمي الكلمة، أمّا من ينمي الزرع فهو الرّب. نحن نعلن ونرحل سائرين في طريق دعوتنا، أمّا الكلمة التي رميناها فنعمة الرّب وحدها تقدر على أن تعطيها مكاناً في قلب الإنسان. نحن رسل المسيح، نحن أصدقاء المسيح، فلا نخافنّ من رفض الآخرين لنا، فنحن لسنا أفضل من معلّم اضطهده حتى أهل بيته، وظنّوا أن به شيطاناً. لا نخشى ولا نملّ، لا نخافنّ من رفض البشر لرسالة نحملها، فما على الرسول إلاّ الإعلان، والشهادة للرسالة التي يحملها في حياته، وفي كلامه وفي تضحيته، وصولاً إلى بذل الذات في سبيل إعلان إنجيل المسيح.